كنا فتية في ريعان الشباب جمعتنا الأقدار بمدينة الأبيض «أبو قبة فحل الديوم» أشرقت علينا شمس الإنقاذ حين أشرقت في خواتيم الثمانينيات ومطلع التسعينات، فنفرنا بإخلاص لنصرة المشروع الحضاري، وابتدار مشوار النهضة المعاصرة، فكانت هبة أظهرت فيها تلك المجموعة من شباب الدعوة عزماً صبوراً أفرغ فيه الجهد وسدت به الثغور، لتكون كردفان في ذلك الزمان الباكر من أكثر مناطق السودان سهماً في تقديم المبادرات الجريئة والشهيرة، حيث أعلنت النفرة الجهادية الشاملة، وأعلنت العهود والمواثيق لقادة النظام، وشرع بصدق في تأصيل الحياة الاجتماعية. لقد كان الأخ الصديق الأمير عبد الرحمن راضي الذي أختطفته المنون من بين أيدينا قبل أيام، كان أحد أعمدة ذلك البناء، وأحد حداة ذلك النفير المبارك، كان عبد الرحمن كمبال رحمه الله قد كلف بعد تخرجه في جامعة أم درمان الإسلامية مع من كلفوا بتأسيس وترسيخ تجربة الدولة الجديدة لتأصيل النشاط الزكوي وربطه بالسلطان من خلال ديوان الزكاة وفرعه بكردفان. إن تجربة ديوان الزكاة في السودان تعتبر النموذج الأول في تاريخ العالم الإسلامي المعاصر في تنفيذ الزكاة عبر مؤسسات الدولة.. جباية ومصارف، وقد بدأت التجربة في حقبة جعفر نميري بصندوق الزكاة كوحدة متخصصة، كانت تتبع لوزارة الشؤون الدينية والأوقاف آنذاك. فأصبح ديوان الزكاة في السودان مرجعاً مهماً في شأن سلطانية شعيرة الزكاة على المستويين العربي والإسلامي، الذي ظلت أقطاره حتى الآن يبادر فيها المكلفون بإخراج الزكاة طوعاً لمستحقيها، وتنشط بعض الجمعيات والمنظمات الخيرية في أحسن الظروف بالتشجيع على دفع الزكوات والمساهمة في جمعها وصرفها على المؤسسات المتخصصة، أو مناطق الكوارث والظروف الإنسانية الحرجة في بعض الدول لقد أسهم الأخ المرحوم عبد الرحمن كمبال في تقديم حزمة من النماذج المشرقة في عدة مجالات، لعل أهمها تقديم نموذج لقائد الإدارة الأهلية المثقف والداعية من خلال قيادته لقبيلة أولاد حميد.. من أهم وأكبر القبائل العربية بالمنطقة الشرقية لولاية جنوب كردفان، وذات الحدود الطويلة مع قبيلة الشلك بجنوب السودان، وذات أضخم ميراث للأعراف والتصاهر والتداخل الاجتماعي مع تلك القبائل من جنوب السودان، مما أسهم في التعايش والاستقرار التاريخي بالمنطقة، ومنع أن تتحول التوترات والنزاعات العابرة التي تنتج عن احتكاك القبائل الرعوية من هنا وهناك أو التداخل في تخطيط المشاريع الزراعية أن يتحول إلى حروب أو نزاع خطير، بالرغم من أن الحدود ظلت مكان نزاع بين الجنوب والشمال منذ وقت طويل.. قدم الأمير كمبال تجربة متميزة من موقع محافظ نيالا، حيث وحد بيئة مشابهة لبيئته التي نشأ بها واستطاع بالمقايسة والمعابرة أن يفض كثير من النزاعات ويسهم في تطوير الواقع، مستفيداً من تجاربه في الأعراف القبلية والقيادة المجتمعية، مما أكسبه حباً وتقديراً من أهل تلك المنطقة بدارفور.. أما تجربته كوزير للمالية بولاية النيل الأبيض فينظر في تقييمها ورصدها بإضافتها لتجربته كوزير مالية لفترة طويلة بولاية جنوب كردفان، حيث أسس بالولايتين نظاماً مالياً ومحاسبياً محكماً من حيث الهياكل وطريقة إتخاذ القرار باعتباره خبيراً اقتصادياً، وصاحب تجربة عملية قاعدية بديوان الزكاة وديوان الضرائب.. فقد عرف عن الأخ كمبال الوزير حرصه على إتاحة الفرصة للخبراء في الإدارات المختصصة بالوزارة لتحديد المؤشرات الفنية وبناء القرارات بطريقة مؤسسية بعيداً عن الإرتجال والتخبط الذي نلحظه عند بعض المسؤولين في المواقع الحساسة، مما أسهم في استقرار الأداء المالي وصرف المرتبات في موعدها أينما حل، وتسيير المرافق الخدمية بدون «قومة نفس» وكذلك يشهد له بالفعالية في تطوير الإيرادات واستحداث المواعين الإيرادية الجديدة وساعده في ذلك شعور منسوبي الإدارات الأهلية وقادتها بإسهامهم والمشاركة في مؤسسات صناعة القرار الحكومي من خلال وجوده في الوزارة، وبالتالي تعاونهم في تحقيق ربط الإيرادات السنوية، لقد ظل الأمير الراحل رغم هذه الحياة العريضة والفعالية العالية، والتخصص الاقتصادي الرفيع، والتنقل الواسع في أضابير وقيادة وزارات المالية، عاش فقيراً بلا ضياع أو عقارات أو كنوز ومدخرات، وقد باءت كل محاولاته لاقتناء منزل لأسرته الصغيرة بالفشل، لأنه كان كريماً ووفياً لأهله وأسرته الكبيرة، يهلك موارده ومدخراته لخدمة قضاياها الكبرى ولحل مشكلاتها العامة، وكان متاحاً رحمه الله لكافة المحتاجين وأصحاب الحاجات في المناطق التي عمل بها ووفياً لعلاقاته الاجتماعية الواسعة ورحم الله الشاعر القائل: لا تنكري عطل الكريم عن الغنى فالسيل حرب للمكان العالي رحم الله الأخ والصديق الأمير عبد الرحمن كمبال، وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً «إنا لله وإنا إليه راجعون».