هولندا عرفت ببلد الزهور، هذا البلد الصغير المحاط بالمياه من كل مكان، مطوق بكل أنواع الزهور في كل الاتجاهات، حتى يخيل إليك أن الأرض مغطاة بالماء والزهور في نسق هندسي بديع، ثقافة الزهور في هولندا هي تقود الحياة، وبالتالي أصبحت الزهور أهم تجارة في هولندا تعدت الحدود، فصارت في هولندا أكبر بورصة عالمية للزهور، فغير الإنتاج المحلي الكبير للزهور تستقبل هولندا كل يوم عشرات الطائرات والشاحنات المحملة بعشرات الأنواع من الزهور، لتجد طريقها إلى كل أنحاء العالم المستهلكة للزهور عبر تلك البورصة الاقتصادية المهمة، لبيع وشراء الزهور التي تعمل ليل نهار طول أيام السنة تضخ مليارات الدولارات من هذه التجارة المزدهرة.. واستهلاك الزهور في الدول الأوربية والغربية مثل استهلاك الطعام، حيث تعتبر ثقافة الزهور جزءاً أساسياً في كل طقوس الحياة الاجتماعية والدينية وغيرها، ففي مناسبات الأفراح والأحزان وفي غير المناسبات عند تبادل الزيارات ولقاء الأحباب والأصدقاء، نجد أن الزهور هي الدلالة الأولى للتعبير إلى جانب الزينة والديكور، بالتالي يزداد الطلب على الزهور يوماً بعد يوم عالمياً، مما يزيد من نشاط البورصة الهولندية للزهور. هذا الاهتمام الكبير بالزهور كمصدر اقتصادي جعل من هولندا مزرعة كبيرة للزهور، حيث تقام فيها معارض متواصلة للزهور طول السنة، وحتى في الشتاء حيث يغطي الجليد كل الأرض، تقام معارض الزهور في البيوت المحمية والصالات المقفولة. وأبرز معرض عالمي للزهور درجت هولندا على تنظيمه كل عشرة أعوام، وفي كل مرة يقام في مدينة مختلفة وهذا المعرض يستمر لمدة ستة أشهر يبدأ في شهر أبريل وينتهي في شهر اكتوبر، وتخصص له مساحة لا تقل عن مئة فدان، ويسمى معرض فلوريداFloride. ولقد كنت من المحظوظين حيث حضرت ثلاث دورات لهذا المعرض، وهذا العام في شهر يونيو رافقني المهندس الشاعر مصطفى ود المأمور، وقمنا بقضاء ثلاثة أيام في زيارة هذا المعرض في مدينة فينلو بهولندا على الحدود الألمانية، ونسبة للمساحة الكبيرة ولهذا المعرض والعروض الكثيرة المتفرقة يصعب أن تكفي مدة ثلاثة أيام لتغطية كل الفعاليات.. فينلوVenlo مدينة صغيرة هادئة، الوسيلة الرئيسية للمواصلات فيها هي الدراجات، وشوارع المدينة تتميز بالهدوء والنظافة وعدم التلوث، تحفها الزهور من كل مكان، والمدنية تحيط بها الحدائق والغابات من كل مكان، وهكذا خصصت مساحة العرض في مائة فدان من الحدائق والغابات تم تسويرها تماماً قبل بضع سنوات منذ الإعلان عن تنظيم معرض الزهور فيها، وتم توزيع هذه المساحة حسب الدول والجهات المشاركة في فعاليات المعرض، وسلمت المساحة المخصصة لكل دولة مشاركة وكل جهة أخرى مشاركة وعارضة قبل أكثر من خمس سنوات من تاريخ المعرض، حتى تتمكن كل جهة من زراعة وتنسيق الحدائق الخاصة بجناحها- وشاركت في المعرض هذا العام 2012 أكثر من 50 دولة تتنافس في عرض أجمل ما عندها، خاصة الدول التي اشتهرت بانتاج الزهور مثل دول شرق آسيا وجنوب أمريكا وبلغاريا وبقية الدول الأوربية والأفريقية، فإن هذه الدول تعتبر هذا المعرض ساحة مهمة للترويج والتسويق لمنتجاتها من الزهور. هذا المعرض ليس فقط لعرض الزهور، بل هو بالإضافة لذلك يعتبر أكبر تجمع هندسي لفنون تنسيق الحدائق وتشجير المدن والشوارع، كما هناك عروض مرئية وعملية للحياة في بيئة صحية بتركيز كبير على الاقتصاد الأخضر، والتنمية المستدامة إلى جانب أقسام متخصصة في انتاج المحصولات البستانية من خضروات وفواكه ونباتات زينة بصورة صحية وسليمة، وفق أحدث التقنيات الزراعية، وبما أن جزءاً كبيراً من المعرض يقع في غابة، فهناك استغلال علمي أمثل للغابات الحضرية وتوزيع المرافق فيها، وحتى يتمكن الإنسان من زيارة أكبر قدر من أجنحة المعرض، فهناك قطار صغير داخلي لترحيل الزوار داخل أرض المعرض، كما هناك «تيرفليك» أو كبائن معلقة تحلق فوق سماء المعرض حتى يتمكن الزائر من مشاهدة كل الفعاليات، والتقاط الصور بوضوح وهي تتجول فوق المعرض. عدد الزوار لهذا المعرض يفوق الثلاثة ملايين نسمة من خارج هولندا، ومعظمهم يأتون من جميع دول العالم للحضور والمشاركة في المعرض الذي يعتبر الحدث الأهم في تاريخ هولندا، وتكتسي البلد كلها بحلة المعرض، فمنذ وصولك المطار وبقية المعابر تجد إشارات وعلامات الترويج ومكاتب مخصصة لمعرض فلوريداFloriade تباع فيها تذاكر الدخول، وتوزع خريطة المعرض ومعلومات عنه.. إنه حدث سياحي واقتصادي كبير تهتم به كل الدوائر الاقتصادية والسياسية في هولندا والدول الأوربية المجاورة.. لم يكن السودان غائباً عن المعرض فقد فوجئنا باسم السودان ضمن الدول المشاركة في المعرض، فهرعنا لزيارة الجناح السوداني، فوجدنا مشاركة خاصة باسم السودان قام بها أحد الأشخاص المهتمين بالمعارض هو الشاب ابن أم درمان ممدوح شنودة، الذي تعمل أسرته في صناعة وبيع الأناتيك السودانية الذي نظم جناح السودان في مساحة مقفولة معتبرة يعرض فيها المشغولات اليدوية السودانية والأناتيك المصنوعة من الأخشاب والجلود والسعف والأحجار وغيرها من الأشغال الفلكورية السودانية، إنه عرض متنوع يعكس معظم ثقافات السودان.. وأمام الجناح حديقة صممتٌ بصورة ترمز لسودان أخضر يجري فيه النيل الأبيض والنيل الأزرق، ويلتقيان في مقرن النيلين.. حيث ينطلق نهر النيل شمالاً - كل ذلك في لوحة فنية بارعة يزينها علم السودان في الجناح.. هناك ركن مزدحم بالزوار فيه إمرأة سودانية تقوم برسم الحنة للزوار، وأخرى تقوم بعمل القهوة بالطقوس السودانية، وأخرى تقوم بتصفيف الشعر على طريقة المشاط السودانية.. حقيقة رغم أن العرض يطغى عليه الطابع التجاري لكنه جهد كبير ومقدر من فرد واحد استطاع أن يرفع علم السودان في حدث عالمي كهذا، فالتحية والتقدير للشاب ممدوح شنودة الذي شارك منفرداً في عشرات المعارض خارجياً باسم السودان، وبما أن السودان البلد الزراعي يتميز بانتاج بستاني متنوع كان من الممكن أن تكون هنالك مشاركة رسمية للترويج للسودان البلد الزراعي الأول في العالم العربي والأفريقي، خاصة وأن مثل هذه المعارض الدولية التي تستمر لأكثر من ستة أشهر لا تأتي إلا كل عشر سنوات.