كان المساء يتكيء على خاصرة ناعمة ويحلق بجناحيه في بحيرة من الضوء ، كانت عشية إستثنائية كيمامة خائفة تفرد جناحيها على رابية مترعة بالعطر ، وفي وسط هذه البانوراما الهاربة من ضجيج العالم ومنغصاته ، كان الخوف ولا غيره يطارد مشاعرنا ، أذكر في تلك الليلة كنا أبو عركي البخيت وصديقنا جمال السنوسي والعبد لله نتسكع على أرصفة الذكري ، فيما كان أزيز السيارة يعبر خفيفا كغيوم خائفة من أجنحة الشمس وريح العوارض ، وفجاءة وبدون ميعاد يتسلل صوت الفنان محمد عبده وهو يتسلق أعصاب الوقت ، ويرتب الوجدان ويردم دائرة الخوف ولهاث الوقت والريح الهاربة من نفاج العمر ، بدأ صوت محمد عبده مترعا بتفاصيل الوصف وهو يشدو برائعة إبراهيم خفاجي مثل صبيا في الغواني ما تشوف §اليماني في الكفوف والعيون خلف البراقع فيها خوف يووووووووه .. يا معين وآآآآآآآآه يا معين .. في تلك اللحظة داهمتني موجة الخوف من الزمن ، الزمن الذي يركض خلفنا ويودع في حساباتنا الكثير من المنغصات والأفراح والمعادلات الرهيبة ، غير أن خوفي تلاشي كسحابة بيضاء حينما تذكرت في حضرة عركي ، رائعته بخاف والتي أطلقت المد التصاعدي لمشروع عركي الفنان الكاريزما والإستثنائي والذي كان وما زال يتواصل ويتحدى الخوف وعيون العسكر وعصا الرقيب ، تواصل اللقاء عبر المركبة في شوارع المدينة الجميلة ، كانت عركي على مسافة ساعات من مغادرته إلى مدينة صبيا ، سألته إن كان يخاف من الزمن ، ضحك وقال بالحرف الواحد أن الزمن ليس بعبعا أو غولا يطادر الإنسان ، وأن بني آدم هو الذي يصنع الخوف ، الحروب ، الدماء ، عدم الإستقرر ، النفاق ، وآلة الموت الرهيبة ، حدثني عركي أن الحياة في السودان لم تعد كما كانت في السنين الخوالي زمن الملاءة البيضاء والمشاعر الخارجة من دكاكين الوقت ، حدثني عن شلة ما زلت تتحدى زمن اللهاث والخوف من المجهول ، سعد الدين إبراهيم ، بشرى سليمان ، حسن السر ومحمدية وآخرين هربوا من الذاكرة الخائفة ، ودعت عركي وهو في طريقه إلى صبيا ، ووضعنا موعدا للقاء مرة أخرى ، بعد ذلك ضربت في نخاشيشي المضروبة أصلا ، حكاية الخوف في الأغنية ومنها قول شاعر تعيس يعيش على أرصفة الغربة خايف يكون شالوا الهوى وقال أيضا خايف تفوت والسكه بيك ما تلمني وأيضا لمحمد عبده أغنية يا قلبك الخواف وفيها يقول ناظر وعدنا طاف ، في اللي دري وما شاف ، يا قلبك الخواف ، فيما قال وردي رحمه الله في مقطع من أغنية لشيخنا الراحل إسماعيل حسن رحمه الله خوفي تنساني وتنسى فالخوف رغم كل محاولتنا الصمود في وجه ريح الزمن يطاردنا ويصنع من أيامنا عجينة يلوكها في حضرة الغياب والجحود والحروب وعدم الإستقرار والذي منه ، وده كله حاصل في السودان .