رأيت أن بعض الكتاب يتفاخرون بأنهم عملوا في صباهم وفي شبابهم البكر في مهن شاقه عمال بناء «طُلَب».. فرأيت إني رغم انتمائي للطبقة المتوسطة العليا عملت بذات المهن.. عملت طُلبة وبائع أكياس.. ثم بعد تخرجي في الجامعة.. وتركي لمهنة التدريس في المرحلة الابتدائية «الأساس الآن» عملت بالتجارة.. ولكن شغلت كل وقتي وأبعدتني من أجمل أمرين في حياتي القراءة ومسامرة الأصدقاء.. فعملت في محل لبيع الأثاث.. ثم بقالة.. ثم سوبر ماركت ولكني قدمت استقالتي من مهنة لا أحبها.. لكنها نورتني كثيراً.. وكانت معملاً لدراسة السلوك الإنساني.. وأدهشتني بعض الممارسات من أناس تحسبهم أولياء عديل فيطلعون «فراعين»، بينما تحسب البعض أشراراً وتلتمس فيهم صفات إيجابية فعالة.. هنالك تجربة تستحق الاضاءة أثناء عملي في بقالة في شارع الأربعين.. وكان ذلك في بداية الثمانينات.. وكانت هنالك أزمة طاحنة ومستمرة وشبه دائمة في الخبز.. وكانت الصفوف تقف لساعات طوال في انتظار الخبز، ولم يكن يباع في البقالات.. وكان ثمن قطعة الخبز 12 قرشاً من المخبز.. وحسب علاقاتي بمن حولي من معارفي كان ضمنهم قضاة في المحكمة القريبة من بقالتي.. وإعلاميون في الإذاعة والتلفزيون.. وبعض الفنانين.. وكلهم شكوا لي من معاناتهم في الحصول على الخبز.. وأتتني فكرة أن أبيع لهم الخبز التجاري أو السياحي- بلغة هذه الأيام- فأنا أول من ابتدع بيع الخبز في البقالات.. وكانت العقبة آنذاك في الأسعار والرقابة عليها وعقوبات مخالفة السعر الرسمي التي قد تصل الى السجن، لكن شجعني اتفاقي مع طبقة فيها «قضاة ومحامون» إن لم يقتنعوا بالخدمة ومشروعيتها لما أقدموا عليها الشاهد إنني اتفقت معهم على بيع قطعة الخبز ب 15 قرشاً.. اكسب «قرشين» في الرغيفة، لأنني حتى أغري صاحب المخبز باعطائي كمية تجارية اشتريها منه بزيادة قرش في القطعة .. لكنهم مقابل ذلك يحضرون متى شاءوا ليجدوا خبزهم حسبما طلبوا في أكياس أنيقة يحمله اليهم صبي نشط، وهم في عرباتهم.. وقد وجدوا مقابل ما يدفعونه في زيادة خدمات أراحتهم من معاناة كبيرة.. فقد حكى لي قاضٍ إنه يرسل «المراسلة» من الساعة التاسعة لشراء الخبز فيعود عند الثانية، مما يجعله يقوم بمهام المراسلة أو يتعطل بصورة أو بأخرى.. وقال لي مذيع تلفزيوني: إن انتظار الخبز أثر على مستوى ابنه الدراسي، لأنه ينشغل به عن استذكاره لدروسه واداء الواجبات المنزلية، على ذلك كانت الخدمة جليلة وأرحت نفسي من تعذيب الضمير باستغلال حاجة الناس، مما يدخلني في زمرة التجار الجشعين.. المهم زاد عدد زبائني.. وهي خدمة خاصة لفئة معينة من الناس يسمح لهم وضعهم الاقتصادي بدفع الزيادة برضا تام، مقابل مايجدونه تجاهها.. لكن اكتشف «ناس الحلة» ذلك فأصبحوا يريدون الحصول على ذات الخدمة بدفع ذات القيمة، مع انهم اقتصادياً ليسوا في حال من اليسر يسمح بذلك.. ولما رفضت البيع لمواطن لم يكن ضمن المتفق معهم على الخدمة، ذهب وأحضر لي رجل شرطة بحجة إنني امتنعت عن بيعه سلعة معروضة للبيع.. وخشيت أن يتطور الأمر الى مخالفة التسعيرة فرضخت للبيع للمواطنين.. الذين كانوا ينتظرون العربة التي تحمل الخبز ويتلقفونه من العربة.. حتى أنني أصبحت لا استطيع الاحتفاظ لزبائني الاوائل أصحاب المصلحة الحقيقية في العملية، والتي قمنا بها من أجلهم ولولاهم لما فكرنا فيها.. وفي هذا جانب إيجابي إن الناس أخذوا حقهم بالقانون.. وجانب سلبي إنني كرست لزيادة ثمن سلعة لم يكن الهدف بيعها.. بل حفظها نظيفة سليمة.. فكأنهم يشترونها بثمنها ونحن نخزنها لهم بطريقة سليمة حتى يأخذونها مقابل مانحصل عليه من مال.. المهم افرغت الفكرة من مضمونها واتسعت الخدمة وأصبح السعر في البقالات غير السعر في المخابز.. وأغمضت الرقابة عيونها ربما رأت في العملية وجاهة.. ماذكرته لكم عن السلوكيات.. أذكر في بيع الخبز من العربة أترك بعض المواطنين يحسبون خبزهم في أكياسهم، واعتمد على مظهرهم فأسألهم كم رغيفة أخذتم فأحاسبهم بمايذكرون، لكن موظفة اربعينية وقورة كانت تنتظر الترحيل أمام البقالة.. عندما عادت من العمل نبهتني الى أن أحرص على عد الرغيف لوحدي ولا أثق في مظهر الناس، دون أن تشير الى أفراد بعينهم.. للأسف الشديد ما أن عملت بنصيحتها اكتشفت كذب البعض فأكثرهم أمانة يزيد رغيفتين فقط.. فجعت في أناس يوميء مظهرهم بالأمانة والوقار والترفع عن الدنايا ولكنهم لا يتورعون من سرقة بعض رغيفات.. والقصص كثيرة.. وقد احكيها لكم فيما بعد.. خاصة والكتابة اليومية الراتبة لم تترك لنا موضوعاً طازجاً نتحدث فيه !!