في إطار توثيقنا لمسيرة لجنة التشريع والشؤون القانونية، عبر التجربة البرلمانية السودانية، توقفنا في الحلقة الفائتة، عند الأستاذ الراحل عبد المنعم مصطفى المحامي، ورئيس اللجنة في فترة مجلس الشعب الثالث «1978- 1980»، إبان العهد المايوي. كانت فترة تولي الأستاذ عبد المنعم قيادة اللجنة القانونية فترة حافلة بالنشاط المحموم، والمبادرات الجرئية، فضلاً عن المواجهات الشرسة مع الجهاز التنفيذي، والاتحاد الاشتراكي الحزب الحاكم والتنظيم السياسي الفرد. ü في عهد الاستاذ عبد المنعم مصطفى قادت لجنة التشريع حملة ضارية ضد بعض القرارات الجمهورية التي اعادت ممتلكات مصادرة إلى أصحابها الأصليين، بيد أن المأخذ لم يكن على قرار إرجاع الممتلكات من حيث المبدأ، فقد كان ذلك عودة للحق ورفعاً للظلم والفساد والتخبط الذي صاحب إجراءات المصادرة والتأميم عام 1970، والتي طالت معظم المؤسسات والمنشآت الاقتصادية الوطنية والاجنبية في البلاد، لكن تحفظ اللجنة تركز في التفاصيل والشروط، إذ رأت أن العدالة تقتضي أن تُرد لصاحب المنشأة أصوله بقيمتها عند المصادرة، وليس في تاريخ الإعادة، لسبب بسيط هو أن الدولة قد صرفت على بعض هذه المنشآت -وخاصة شركة البص السريع- أموالاً طائلة أدت إلى مضاعفة رأسمالها وتنامي أسطولها، وفي إعادة كل هذا للمالك الأصلي، ظلم وإجحاف بالمصلحة العامة وبدافع الضرائب وإثراء بلا مسوغ شرعي. ü وإنتهت اللجنة بتوصية جرئية التمست فيها من الرئيس نميري إعادة النظر في قراره الجمهوري!! ü ولم يتوقف نشاط اللجنة عند قضايا المصادرة والتأميم، لكنه امتد إلى اسقاط أمرين مؤقتين أصدرهما الرئيس، أحدهما يتعلق بتعديل لقانون محاسبة العاملين والآخر لقانون الهيئة القضائية. ü هدف الأمر المؤقت الأول إلى حرمان العاملين المفصولين من الخدمة بسبب الغياب «أو الاغتراب»، من كافة فوائد ما بعد الخدمة، أما الغرض من الأمر المؤقت الثاني فهو إلغاء الامتياز الذي كان يتمتع به القضاة بالحصول على معاش بمجرد قضاء اثنتي عشرة سنة خدمة، بينما الحد الأدنى لنيل المعاش في باقي المصالح الحكومية هو عشرون عاماً. ü رأت اللجنة أن الأمريين المؤقتين ينبغي ألا يمرا، لضعف مبرراتهما، ولما كان الأمر المؤقت آنذاك لا يمكن تعديله، فإمّا أن يجاز بحذافيره أو يسقط بكلياته، أوصت اللجنة المجلس «مجلس الشعب الثالث»، باسقاط القانونيين، وقد كان. ü إستطاعت اللجنة أن تحشد لدعم توصياتها المحفوفة بالمخاطر، سنداً عظيماً من نواب المجلس، وخاصة القادمين إليه من كوادر الجبهة الوطنية «أمة واتحاديين واخوان مسلمين»، عقب المصالحة الوطنية بين النظام المايوي، والمعارضة، بالإضافة إلى قيادات مايوية نقابية مؤثرة مثل عبد الرحمن عباس والسر عابدون وآخرين. ü ومن الواضح أن لجنة التشريع ومن شايعها من أعضاء المجلس قد صدقوا مقولة رئيس الجمهورية التي ظل يكررها في عدة مناسبات، أن «مجلس الشعب هو عيني التي ترى، واذني التي تسمع، ويدي التي تبطش»، بيد أن رد فعل الحزب الحاكم والرئيس الغاضب أثبت الخطأ الذي وقعت فيه اللجنة، بل و فشل رهانها على قدرة التنظيم السياسي الواحد على تحمل الرأي الآخر، وعلى إعمال المؤسسية، والديمقراطية داخله. ü وصب الرئيس نميري جام غضبه على رئيس اللجنة، وعرّض به في خطابات سياسية ساخنة أمام الهيئة البرلمانية، كما ندد الرئيس بمن أسماهم «مدعي البطولات». ü لقد كان إسقاط أوامر مؤقتة صادرة من رئيس الجمهورية بكل ثقله السياسي والدستوري، سابقة خطيرة في عرف عرابي النظام المايوي وقادته، لهذا دفعوا بالرئيس إلى اتخاذ مواقف متشددة طالت رئيس اللجنة شخصياً كما أصابت المجلس نفسه كمؤسسة. ü في رأيي أن القيادة السياسية لثورة مايو آنذاك، قد اضاعت فرصة ذهبية، في ضرب مثل رائع «وبيان بالعمل»، للشورى والنهج الديمقراطي، كان من شأنها أن ترفع من قدر النظام، وتضيف لرصيده السياسي، إذا ما قبلت بقرارات مجلس الشعب، وأكدت احترامها لقناعات النواب، الأمر الذي كان سوف يؤدي حتماً إلى اعلاء شأن المؤسسات الدستورية القائمة، ويدعم مصداقية النظام، ويرسخ الممارسة الديمقراطية، وركائز دولة القانون. ü عوضاً عن ذلك لو حق رئيس اللجنة وأجبر على الاستقالة، وذلك بعد اجراء تعديل للنظم واللوائح اشترط بموجبه على رؤساء اللجان التفرغ الكامل للعمل البرلماني، ولما كان الأستاذ عبد المنعم مصطفى يدير مكتب محاماة كبير وناجح ويدر دخلاً محترماً، لم يكن أمامه عندما خيَّر، الا التخلي عن رئاسة اللجنة، بل وعضوية المجلس ذاتها بعد أن حس بأن ما وراء الاكمة ما ورائها. في الحلقة القادمة تناقش قضية تفرغ قيادات المجلس..