اتجهت إلى الموقف الذي تتجمع فيه مختلف سبل المواصلات وذلك كي أبادر وأقدم وأجب العزاء في وفاة أحد أقاربي.. وبينما أنا أبحث عن أسرع وسيلة تنقلني إلى تلك القرية ا لتي أقصد فإذا بأحد أقربائي يسلم علي ويشير لي بأن نركب هذا البوكس (تايوتا) لأنه متحرك الآن ويعرف أصحابه وفعلاً أكرموني بالمقعد الأمامي جوار السائق وحدي وكان البوكس محملاً بجوالات ظننت أنها جوالات سكر.. تحرك بنا البوكس ويجلس بالخلف على جوالات السكر قريبي ومعه شخص من أصحاب البوكس وبعد فترة فارق السائق الطريق الرئيسي وذهب بطريق وعر وغير معبد وقال لي عفواً يا شيخ هذا الطريق أسلم لأن (درب السلامة للحول سمح) وبهذا الطريق نتفادى الجبايات والضرائب وجماعة المرور الذين لن يخرج منهم جيبك سالماً حتى ولو كنت ملتزماً بكل القوانين واللوائح.. قلت: هل إختفت الرحمة من القلوب قال لي مرة بتاع المرور وقفني ورأى كل الأوراق خاصتي وخاصة العربية.. فلما وجد كل شيء تمام قال لي تتكلم معاي وأنت سافي التمباك قلت في حياتي ما سفيت! قال بلعتها ولكن برضو ما بخليك. وفي أثناء كلامه معي إذا بنا نمر على عربة متعطلة ويحاول أصحابها دفعها للأمام فوقف السائق ونزل، هو ومن معه لتقديم المساعدة، وفجأة ظهر أن الموضوع مجرد كمين لقطاع الطرق أشهروا السلاح وتحت تهديد السلاح نقلوا كل الحمولة من السكر إلى عربتهم بل أخذوا كل ما في جيوب جماعتي وبعد ما تحركوا تذكروا أن هنالك شخص يجلس في المقعد الأمامي، وهو أنا فاستداروا ووقفوا بجانبي ونزلوا جميعاً، وفتح الباب كبيرهم وجذبني جذبة قوية، ولما وقفت أمامه كانت المقارنة ما بين عملاق ومسكين، وشرير ومسالم، فقلت في خاطري(اللهم يارب كل مخلوق ويا قوي هذا يتباهى بجسمه وسطوته وبسلاحه وبطاعة من معه من أصحاب، اللهم أني أتباهى بك، واتوكل على قوتك، ولا حول ولا قوةإلا بك اللهم أرني فيه عجائب صنعك) بعدها رأيت تغيراً خاطفاً وكأنما سرت فيه كهرباء فقال لي بلهجة الأدب عفواً يا شيخ كنا نظنك الجلابي صاحب العربة والحمولة، قلت له على الفور: المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه.. هل مال التاجر حلال؟ ثم قلت له: يا ابني حق الناس شين في الدنيا سجم وفي الأخرة ندم.. فيما بعد علمت منه أن هذا الكلام أثر فيه تأثيراً شديداً! وأنه كان نفس كلام والده له عندما قطع الدِّراسة وبدأ يسرق وينغمس في عالم الجريمة والشر. بعد ذلك ذهب إلى عربتهم وأحضر«فرشة» وقال لي أجلس تحت ظل هذه الشجرة وأسترح حتى نغير لكم إطار البوكس الذي أطلقوا عليه الرَّصاص.. أمر جماعته بتغيير إطار البوكس وذهب وأحضر لي زجاجة بها ماء لكي أتوضأ وبعد إتمام صلاة الظهر ناديته وسألته، من أين هو كعادة كبار السودانيين ما أن يسألوك عن أسمك وقريتك وقبيلتك إلا ويوضحوا لك بعد ذلك ما بينك وبينهم من صلة! إما قبيلة واحدة، وأما نسب، وأما صحبه المهم لابد من أن تجد لك معهم صلةً.. بعد ذلك سألته عن لقبه لأني قلت لن يخبرني باسمه الحقيقي قال لي: لقبي(البقلع ضحى) قلت له على الفور هل والدك قبل أن يتوب كان اسمه (البقلع ضحى) قال نعم قلت: ابن فلان قال نعم ثم قال هل تعرفه قلت : إني كنت صغير ولكن والدتي حكت لي عنه وعن توبته على يد جدي أحد المشايخ المعروفين وحكت أيضاً عن ورعه وصلاته بعدما تاب، حتى ظهرت له كرامات دلت على صدق توبته، وكمال صلاحه قال: سبحان الله هنالك شبه واضح بينك وبين والدي غير أن طريقته في الكلام نفس طريقتك وأظن أن العبارات هي نفسها؟.قلت لا مجال للمقارنة فهم صالحين ونحن نتشبه بهم فقط فحياتهم كانت غير حياتنا ليس بينهم عداوات ولا أحقاد ولا حسد ولا تكالب على الدنيا كما نحن الآن نسعى لها بحرام أو بحلال، وهم رضوا بالكفاف من العيش ورضوا بالحلال ولو كان قليلاً.. قال لي: معنا شاي هل تقبل كوب من الشاي قلت جزاك الله خيراً فإني صائم قال: أسمح لي فقد جذبتك جذبة قوية، أعفو عني فإن والدي كان يقول أسوأ شيء يرتكبه الإنسان أن يسيء معاملة رجل صالح لأنه في مقام والده، قلت له: أنا عافي منك قال والسُّكر دا نحن قلعناهو محتاجين للقروش! قلت السُّكر ليس ملكي لا عفواً أنا مجرد راكب مع أصحاب البوكس. ثم أردف قائلاً: والله لو ما محتاجين ما كنا قلعناهو قلت: ياولدي حق الناس ما بغني أبداً يذهب الحرام من حيث أتى البغني رب العالمين بسبب أو بلا سبب. قال: أدعو لنا الله أن يهدينا قلت أهدينا يا هادي الضالين ثم قلت في خاطري إن هذا الرجل رغم فعلته القبيحة إلا أنه قد خدمنا ولابد من أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين بأن يتفضل ويجود عليه ويكرمه لأجل ذلك بلطف جميل منه ويرحمه بمغفرةٍ واسعةٍ يخرجه بها من الظلمات إلى النور ويتوب عليه كما تاب على والده من قبل، والخدمة هي ديدن الأنبياء والصالحين وقد كان جدنا الأكبر رحمه الله يجتهد في تخديم المريد قبل دراسة العلم، وكان يقول بخدمة الفقراء يترقى المريد. فالحمد لله كما توقعت لم يخذلني الله عز وجل أبداً إذ تاب صاحبنا، وأرجع السكر إلى البوكس، وأعتذر منهم ورافقنا حتى شارفنا على القرية، بعد ذلك تاب وحسنت توبته، وقد أشرت له بالتجارة في القصب وتطورت وأصبح يشتري لوري القصب ويبيعه بربح كثير، وأصبح من أشهر تجار القصب بل يلقب« بقص» وأصبح دائماً في الصفوف الأولى لصلاة الجماعة، وما بين حج وعمرة، ودائماً يقول أنا أقلع من شيخ الشيخ قلعني ذاتي، وهو الآن من أشد وأخير وأخلص أصحابي. والحمدلله على ذلك المخرج.. وإلى اللقاء في مخرج جديد. قال تعالى( ومن يتق الله يجعله له مخرجاً) سورة الطلاق الآية (2)