من هم سكان السودان قبل ظهور المسميات القبلية الحالية مملكة كوش وفي واقع الأمر فإنه ليس هنالك حتى الآن اسم واحد يطلق بصورة عامة على تاريخ السودان القديم قبل عصر الممالك المسيحية. فنطلق مثلاً على الثقافات المبكرة المجموعات أ وب و ج ونحصرها على المنطقة الواقعة شمالي دنقلا، ونطلق حضارة كرمة على المنطقة النيلية الواقعة شمال الخرطوم دون اعتبار لمناطق التداخل السكاني والأودية التي ربطت سكان النيل في المناطق المجاورة لها شرقاً وغرباً. ورغم ان آثار المجموعة الثقافية ج مثلاً وجدت في مناطق كسلا شرقاً ووادي هور غرباً فإننا نحصرها في دراستنا على منطقة النيل الشمالية فقط. وبنفس الطريقة ندرس حضارة كرمة منعزلة عن الصحراء الغربية ووادي هور. هذه الدراسة للحضارات القديمة تجعلها منعزلة عن النيل من الخرطوم شمالاً، اي ان سكان المناطق الواقعة إلى الشرق والغرب والجنوب من هذه المنطقة لا يشعرون بالإنتماء لتلك الثقافات والحضارات المبكرة وهو أمرٌلا يتمشى وما تم العثور عليه من آثار رغم قلتها. إلا انها توضح الإرتباط القوي والصلة الواضحة لمنطقة شمالي الخرطوم بالمناطق الواقعة إلى الشرق وإلى الغرب وإلى الجنوب إليهم. ثم تأتي حضارة نَبَتة ومروي ورغم ان الدراسات لم توضح على وجه التحديد حدودهاتين الحضارتين شرقاً وغرباً وجنوباً إلا ان دراستنا لهما تنحصر أيضاً على المناطق النيلية الواقعة شمال الخرطوم. وعلى بعض المناطق بين النيل الأزرق ونهر عطبرة مما يعطي الإحساس بأن مناطق السودان الأخرى لا صلة لها بتلك الحضارتين، وان سكان تلك المناطق لا ينتمون إلى تلك الحضارة. فدلالات الأسماء التي نطلقها على تاريخنا القديم مثل ثقافات المجموعات المبكرة وحضارة كرمة وحضارتي نَبَتة ومروي دلالات محلية محصورة على مناطق محددة لا تحمل معنى عاماً يربط باقي مناطق السودان الأخرى -التي بناء على ما تم التنقيب عليه من آثار- اتضح ارتباطها بتلك الثقافات والحضارات سواء في شرق أوغرب السودان أو على النيل الأبيض. وقد أدى عدم وجود مسمى عام لتاريخ السودان القديم إلى قيام بعض الباحثين بأقتراح بعض الأسماء للدلالة عليه في حدود السودان الحالية. ولعل أكثر الأسماء قبولاً هو اسم كوش وهوالاسم الذي ظل يطلق على البلاد والسكان جنوبي مصر نحو أربعة آلاف سنة. وقد أثبت التنقيب الأثري وجود آثار الكوشيين منذ عصر الثقافات المبكرة في مناطق كسلا شرق السودان ووادي هور غرب السودان، ولعل المزيد من أعمال التنقيب الآثارية في تلك المناطق ومناطق النيل الأبيض توقظ شعور إنتماء تلك المناطق وسكانها لحضارة واحدة هي حضارة كوش، وظلت تلك الحضارة في عطاء دائم على الأقل نحو أربعين قرناً حتى نهاية عصر مملكة علوة المسيحية في القرن الخامس عشر الميلادي. وقد ابدى بعض الباحثين تحفظاً على إطلاق إسم كوش للدلالة على تاريخ السودان القديم باعتبار دلالته القديمة الممتدة إلى خارج حدود السودان الحالية. ولا أرى أن في ذلك ما يقف أمام استخدام المصطلح، فاسم السودان القديم يدل أيضاً دلالة واسعة ظلت مرتبطة به في ذاكرة الشعوب داخل وخارج قارة افريقيا حتى الآن. ويتميز مصطلح كوش بأن دلالته القديمة ليست شائعة الاستعمال كدلالة اسم السودان، بالاضافة إلى أن اسم (السودان) يعتبر حديثاً بالمقارنة إلى اسم كوش، فاسم كوش يرجع إلى أربعين قرناً بينما يرجع اسم السودان !! الذي ظهر مع دخول العرب مصر - إلى نحو أربعة عشر قرناً. وقد اقترح بعض الباحثين مثل (إيسيدور سافتش كاتسنلسون في (مجلة الآثار السودانية أركاماني، العدد الثاني فبرائر 2002) إستخدام مصطلح (الدراسات المَرَوية) للدلالة على تاريخ السودان القديم حتى نهاية العصر المروي في القرن الرابع الميلادي أي قبل العصر المسيحي في السودان. ولم يجد هذا الرأى ترحيباً من الباحثين. وقد ساد في بعض المؤلفات عن تاريخ السودان القديم استخدام اسم (التاريخ النوبي) للدلالة عن تاريخ السودان القديم حتى نهاية العصر المسيحي. ولا أرى أن استخدام اسم (التاريخ النوبي) للدلالة على (تاريخ السودان) مقبولاً لأن مدلول اسم النوبة القديم ظهر استخدامه في فترة محدودة تقع بين القرن الثالث قبل الميلاد والقرن الرابع الميلادي، أي لفترة عشرة قرون من جملة تاريخ السودان القديم الموثق وهو أربعون قرناً. وبالإضافة إلى ذلك فإنه بالرغم من اتساع مدلوله مدلول اسم (النوبا) القديم إلا أنه عند استخدامه ينصرف الذهن إلى معنى النوبة بمفهومه الذي اشتهر بعد دخول المسلمين مصر في القرن السابع الميلادي. وقد ناقشنا فيما سبق مدلول اسم النوبة الحديث في المصادر العربية وخلصنا إلى أنه أطلق للدلالة على سكان منطقة النيل الواقع بين الخرطومجنوباً ومنطقة أسوان شمالاً. فإطلاق اسم (تاريخ النوبة) للدلالة على تاريخ السودان القديم يجعله منحصراً فقط في هذه المنطقة، وهو أمر دلت بدايات الأعمال الآثارية الواسعة على عدم مصداقيته. إلى أي مدى امتدت حدود دولة كرمة جنوبا وغرباً عبر أودية هور والمقدم والملك والنيل الأبيض؟ وإلى أي مدى امتدت شرقاً عبر نهر عطبرة والنيل الأزرق؟ تتطلب الإجابة الكثير من البحث والتنقيب، ولكن بناءاً عل ما توفر حتى الآن من آثار طرحت بعض النظريات عن أصول سكان مملكة كوش. وقد سبق أن تعرضنا في بداية هذا الفصل لأصول سكان شمال السودان، وسنوجز هنا النظريات التي تناولتها الدكتورة سامية بشير في كتابها تاريخ مملكة كوش ص (196 - 199) في هذا الصدد. بيِّنت أقدم الهياكل البشرية التي اكتشفت لسكان شمال السودان يعود تاريخها إلى نحو 10,000 سنة قبل الميلاد ولكن لم يتفق الدارسون حول أصولهم. وناقشت دكتورة سامية آراء الباحثين حول أصول أولئك السكان والتي يقول بعضها أن السكان تكونوا من السلالات المحلية التي اختلطت بهجرات العناصر القوقازية التي أتت من أوربا. ويرى البعض الآخر أنهم تكونوا باختلاطهم بالعناصر المنغولية التي أتت من قارة أسيا. ويرى آخرون أنهم تكونوا باختلاطهم بعناصر زنجية أتت من افريقيا جنوب الصحراء. ü كلية التربية جامعة الخرطوم