هاتفني الليلة الماضية صديقي وزميل صباي د. نصر الدين ود العم إبراهيم شلقامي رحمه الله، أحد أعيان كوستي الذين شادوا عمرانها وأنهضوا حضاراتها، عم شلقامي الذي لم تكن تُلفيه جالساً أمام معرضه لبيع الأقمشة الحديثة من أصواف وأقطان إنجليزية ومصرية وحراير آسيوية، إلا وهو في كامل أناقته وزيه الرسمي المكون من الجلباب والعمامة وعليهما قفطان الألاجا أو الشاهية في ذلك الزمان الجميل من الخمسينات، حين كانت الطبقة الوسطى لا تزال فاعلة والحياة في السودان كما الناقة الذلول يقودها الكل إلى حيث يشاء وكيف يشاء، طبقة وسطى قادت الكفاح من أجل الاستقلال وعملت على نشر التعليم الذي ضنّ به المستعمرون فأنشأت المدارس الأهلية، ومنها «مدرسة كوستي الأهلية الوسطى» التي جمعتنا مع أبناء عم شلقامي نصر الدين ونور الدين وكبيرهم حريص كابتن الباسكتبول (كرة السلة) الأنيق. هاتفني د. نصر قلقاً وغاضباً، وقلّما يغضب نصر الدين، فهو من «المنتجات الإلهية» الصديقة للبيئة وللإنسان ولكل ما حولها، وب(الأمارة) فإن التشيك الذين تلقى علومه الجامعية في ديارهم انتخبوه قنصلاً «فخرياً» وممثلاً لهم في وطنه السودان، فبالإضافة إلى كونه من مؤسسي جمعية حماية البيئة السودانية وجمعية فلاحة البساتين فهو رئيس جمعية حماية المستهلك المدافعة عن حق «الزبون» في خدمة ممتازة وأسعار مقبولة وبضاعة مأمونة وصحية وخاضعة للمعايير والمواصفات المطلوبة من حيث الجودة والصلاحية. شكوى الجمعية التي نقلها لي د. نصر الدين بكلمات مشبعة بالأسى والأسف والمرارة، تتلخص هذه المرة في مشكلة تتصل بغمار الناس من الفقراء والمساكين الذين لم يعُد بإمكانهم وسط اندفاع أمواج الغلاء المتصاعد أن يُسدّوا رمقهم أو يشبعوا جوعة صغارهم إلا بصحن الوجبة الأرخص والأطيب والأشهر «البندورة» أو «الطماطم بالدّكوه» أو بمعجون الفول السوداني، الذي لم تعُد الطماطم كما يقول نصر الدين - وهو يتحدث هنا بحكم علمه وتدريبه كخبير للأغذية- مجرد صحن مكمل يوضع على طرف الصينية أو المائدة عند الميسورين، بل هو بالنسبة لمعظم فقراء الوطن الطبق أو الوجبة الأساسية، ويؤمن نصر الدين من وجهة النظر العلمية أنها وجبة كاملة الدسم والعناصر تقيم الأود وتوفر المطلوب من طاقة ومقاومة. وقبل شهرين، وفور انتهاء الموسم الماضي وحلول الصيف حيث يتضاءل إنتاج الخضروات والطماطم على وجه الخصوص، تحركت جمعية حماية المستهلك واجتمعت بوكيل وزارة الزراعة (المهندس عجيمي)، حيث شرح له د. نصر الدين وزملاؤه في إدارة الجمعية واقع الأسعار، حيث أصبح كيلو الطماطم يتراوح بين ال(12) وال(17) جنيهاً، ولم يعُد من الممكن للفقراء والمعوزين الحصول على وجبتهم المعتادة والميسورة، ودعوا الوكيل لتفعيل ما يُعرف لدى الوزارة ب(الروزنامة)، وهي الصيغة التي تسمح باستيراد السلع الزراعية وقت الندرة لسد النقص بسعر معقول. واستبشر نصر وزملاؤه بقرار السيد الوكيل بتكوين لجنة من المنتجين ووزارة الزراعة والجمارك والجهات المعنية، وتلقّت الجمعية خطاباً رسمياً بتكوين اللجنة. وكانت دعوة «تفعيل الروزنامة» هي نتاج زيارة قام بها د. نصر الدين ضمن وفد رسمي من «النهضة الزراعية» لسورية لمعاينة الخبرة السورية المتطورة في مجال الزراعة. وبما أن نصر الدين مهموم بأحوال شعبه الفقير، فقد انصرف همه عندما رأى البندورة السورية «الماخمج» إلى صحن «الطماطم بالدكوة»، فسأل عن سعر الطماطم هناك، فأجابوه بأنه يساوي ما يعادل نصف جنيه من سعر ذلك الكيلو «التعبان» الذي يناطح رقم العشرين جنيهاً في بلادنا، فبدأ يحسبها مع المسؤولين وبيوت الخبرة في مجال التصدير هناك، والتي نستورد منها رفاه الأغنياء من تفاح وكوميثرا وعنب وفراولة و«ما بعرف شنو»، وكانت نتيجة «الحسبة» هي أن كيلو البندورة ونقله حتى جواً زائد الجمارك والخدمات اللوجستية من تعبئة وتغليف وتبريد ومناولة سيصل إلى المستهلك في الخرطوم ومدن السودان الأخرى بثلاثة جنيهات لا تزيد، ولم يكن طلب الجمعية يرمي إلى أكثر من سد الفجوة وقت الندرة والذي يصادف شهر رمضان الفضيل، في بلاد تتحدث دولتها وتُفاخر بسياسة التحرير وتُعلن صباح مساء أن لا تراجع عنها، تلك السياسة التي يعتبر فتح الاستيراد من أولوياتها ومطلوباتها الأساسية، منعاً للاحتكار والحماية اتساقاً مع موجهات منظمة التجارة الدولية التي يجهد السودان للالتحاق بها وتفيؤ ظلالها، وشكل لجنة خاصة لهذا الغرض يرأسها قانوني خبير وشهير في هذا المجال بدرجة وزير. خلاصة الأمر أن جهد الجمعية انتهى إلى لا شيء، واستبشارهم بتشكيل اللجنة كان بمثابة «فرحة ما تمتش» على قول المصريين، فاللجنة التي أُخطروا بتشكيلها لم تجتمع أبداً، وسمعوا فيما بعد أنها حُلّت أو اُلغي القرار الخاص بتشكيلها أو ابتلعها «ود امبعلو»، وود امبعلو لفائدة الأجيال الجديدة كائن أسطوري يوازي عند السودانيين «الغول والعنقاء» في الثقافة العربية الفصيحة، يستخدم في إخافة الأطفال أو خداعهم. لكننا نسأل كما تتساءل الجمعية لماذا فعل «ود امبعلو» هذا «بصحن الطماطم بالدكوة»، لماذا لحس قرار تشكيل اللجنة ولمصلحة من في بلد لا يغطي إنتاج البيوت المحمية فيها حتى واحد في المائة من احتياجات السوق، لكن يبدو أن «ود امبعلو» ذو قلب كالحجر أو أشد قساوة تماماً كما «سارتانا لا يرحم» في ذلك الفيلم الشهير.. ارحموا من في الأرض.. ولو بصحن «طماطم بدكوة» يرحمكم من في السماء!