تعرفت على «ود الناس» بالصدفة.. فهو يعمل في الشركة المجاورة لشركتنا.. وكنت قد قصدت زيارة أحد معارفي هناك لأداء خدمة ما.. وسألت «ود الناس» عن مكتب «زولي» الجيتو.. فتعامل معى بطريقة مهذبة أسرتني.. كان من الحساسية بحيث يرد على كل العبارات ليس مثل معظمنا.. فكثيراً ما لا يرد عليك من تقول له شكراً.. أو أنا آسف.. أو معليش.. نادراً ما تجد من يفتح فمه ليقول لك عفواً جزيلاً.. أو ما دام الأسف.. أو معليش ولا يهمك.. وعندما قلت لو سمحت قال: نعم.. قلت لو سمحت.. قاطعني اتفضل.. مكتب فلان وين.. اتفضل معي.. ومضينا وهو يمطرني بابتسامات حلوات.. أهو ده المكتب.. ثم قال عن إذنك وانصرف.. قررت أن هذا «الزول» كائن أسطوري.. وعندما سألت صديقي عنه ولما طلب وصفه له.. قلت زول مهذب تهذيب مبالغ فيه.. فقال بسرعة: نعم.. نعم هذا «علي ود الناس».. ثم انبرى يتحدث لي عن تهذيبه وحسن معاملته.. فقال لي هو طيب لمن عوير.. الغنماية تأكل عشاه.. تأكل وتمسح فيهو يدك وما يزعل.. ما قال لا إلا في التشهد.. أصلو ما بغلط على زول.. أحببت الرجل بوصفه وبالدقائق التي لاقيته فيها. أصبحت متى وجدته أهرع إليه موطئاً أكنافي وأرجو أن تكتب أكنافي هذه صحيحة هذه المرة.. فقد وردت في زاوية سابقة.. «أكتافي» وفرق كبير بين توطئة الأكناف والاكتاف.. فالأكناف الموطأة تعني التواضع والتسامي ومحبة الآخر كأنه ولدك.. أما توطئة الأكتاف فقد تعني الهزيمة الكالحة.. فقد وصف «عبدالصبور» الجنود المهزومين بأن أيديهم مدلاة إلى قرب القدم بجانب إيحاءات أخرى تستدعي فتح بلاغ بإشانة السمعة. نعود لزولنا «ود الناس».. إعجابي به مثل الجميع تدفق.. لذلك كلما تحدث الناس عنه استمعت وشاركت لأنه طبعاً أول حديث تقوله مجموعة عن شخص غائب وهي تمجده وتعدد محاسنه.. فالعكس هو الذي يحبه الناس فهذا شمار إيجابي.. ذات مرة والحديث عن «ود الناس» يمتد.. فمن يذكر موقفاً يدل على رقته.. ومن يحكي لي عن كرمه.. وإحساسه بآلام الآخرين.. يكفي أن تقول آه من الصداع فتجده جرى وأحضر لك حبة البندول مع الماء. قالت «هيفاء» إنها ترى أنه لا يشبه «ناس الزمن ده».. وسألتها إذن فهو فارس أحلامك.. ضحكت وقالت: ما للدرجة دي.. ألححت عليها وليتني ما ألححت فقالت: أنا أريد أن أتزوج إنساناً عادياً.. يخطيء ويصيب.. يزعل ويرضى.. تشاكلو ويشاكلك.. هذه الكلمات كانت قاسية عليّ جداً ولم يخب حدسي في قسوتها. كنت ذات يوم ألهث منذ صباحه لإجراءات هنا ولقضاء مصالح هناك حتى حلت الظهيرة وأطل العصر.. فأحسست بالجوع والعطش.. ولما كنت قد أنجزت أشياء عديدة وتحصلت على دراهم ما بطالة.. قررت أن أكافيء نفسى بوجبة شهية غير الوجبات اليسيرة المتاح لي تناولها.. وفكرت في ذلك المطعم الفخم.. رغم أنه بعد أن عمل زبائن قلل كثيراً من طعامة أكله ومن سرعة خدمة العاملين فيه.. عموماً قررت أن أختار رفيقاً يؤاكلني ووجدت «ود الناس» أمامي وأنا أعرف رقته وأنه سيستجيب للإلحاح بطبعه الحساس. يا سيدي الأمانتي ليك.. مشينا.. واتغدينا فضلة خيركم.. وطلبت أعواد لا أعرف اسمها ولكنها تستعمل في تخليل الأسنان بعد الأكل وهى عند البعض مهمة وضرورية ولعلها تكمل مشروع اللذة بتلمظك الطعام. أثناء ذلك حاصرته بالأسئلة مثل هل تعرف محبة الناس لك.. ذكرت له أنه الوحيد الذي «لما يجيبو سيرته في الكلام» يكون مديحاً وشكراً. أخذ نفساً عميقاً.. وقال لي: أنا يا صديقي أشقى الناس بهذه المعاملة.. الناس تعاملني كأنني ملاك.. وأنا أريد أن أكون إنساناً.. هل تصدق أنني أتمنى أن أشتجر مع أحد.. أو أقول ألفاظاً نابية.. وأخرج عن الطور.. أتمنى أن أكون إنساناً عادياً.. تذكرت كلام «هيفاء» وقلت كم هي بنت بعيدة النظر.