وما زلت أقف تماماً خلف راحلة المتنبيء.. وهو يبكي وأنا أبكي.. وما زلت أردد معه في أسى.. عيد بأي حال عدت يا عيد.. هو يبكي فراق الأحبة.. وأنا أبكي ظلم الأحبة.. هو يبكي تجاهل واحتقار كافور.. وأنا أبكي قسوة الحكومة.. بل ظلم الحكومة لشعبها.. التي جعلته ينظر إلى العيد.. وكأنه كابوس مفزع من كوابيس الليالي المخيفة.. الفرق بيني والمتنبيء إنه كان وسط طوفان من الفرح.. وأمطار من الغناء والشدو البهيج من شعب الكنانة وهو يحتفل بالعيد.. والمتنبيء صخرة لا تحركها هذي المدام ولا هذي الأغاريد.. الفرق إني أقف وسط الذين بات يعتصرهم الوجع.. وأياديهم و «جيوبهم» قاصرة.. عن كبش الفداء.. كيف لا والحكومة تعلم أن السواد الأعظم من موظفيها وعمالها.. وتلك الفئة الصابرة البائسة من المعاشيين.. تتراوح مرتباتهم بين الاربعمائة جنيهاً والثمانمائة جنيهاً.. في وطن بلغ فيه ثمن كبش الأضحية المليون من الجنيهات.. بعد كل ذلك ألا يحق لي أن أنوح وأتوجع.. بعد كل ذلك ألا يحق لي أن استرجع ذكرى تلك الأيام الزاهية المزهوة.. والتي كان فيها العيد.. ساعات من الفرح الطليق.. وأيام من الأنس الأنيق أبواب مشرعة.. ابتسامات تفيض من المنازل حتى تغمر كل طريق أطفال ما عرفوا عيداً قط بلا «خروف» مهما كانت الظروف.. إنها المحطة الأخيرة من العذاب.. إنها الحلقة الأخيرة من سلسلة الأحزان.. نعم لقد «ورتنا» الانقاذ شيء جديد ما كان يخطر على البال.. تجاوزنا كل المظالم.. تصدينا بعزم الفرسان إلى البؤس والفقر والمسغبة.. جف دم «التمكين» وتجلط على السواعد والنحور.. أما الذي لم نتوقعه أو نتحسبه أو نعرفه أو نشاهده طيلة ساعات وأيام أعمارنا.. أن تزحم الفضاء الفتاوى من علمائنا الأفاضل بجواز الأضحية بالتقسيط.. سؤال إلى «كل الناس بلا فرز» هل سمعتم يوماً.. حتى ولو همساً أو إشارة لحديث عن شراء الخروف بالأقساط؟؟ وسؤال بريء وإن شئت سؤال خبيث.. هل هناك دستوري أو وزير أو مسؤول من الذين يقودون البلاد قد فشل في توفير أضحية لأسرته وأطفاله؟؟ هذه هي تلال الوجع التي ظللت ليالي وأماسي العيد.. إنه الحزن العاصف الذي لم تتخلله ابتسامة واحدة غير تلك التي ضحكنا عليها طويلاً رغم بحار الحزن.. فقد كان ضحكنا من «نكتة» كانت هي حديثنا كل أيام العيد.. هي التي كانت على «صوانينا وأطباقنا» الفارغة.. النكتة التي أطلقها في الهواء الطلق وعلى عموم مسرح السودان.. السيد وزير التجارة ذاك الذي كان معارضاً شرساً.. جسوراً وخطيراً.. قبل التحاقه بمركب الانقاذ.. فقد قال الرجل إن ثمن الأضحية سيكون باربعمائة وخمسون جنيهاً.. لا غير.. كيف ذلك يا «شيخنا» ألم يحدثك «الإخوان» إن البلاد قد صارت تحيا وتتنفس وتعيش تحت رايات «تحرير السوق».. وهل حدثك «الإخوان» إن الحكومة تملك الآلاف من القطعان التي تعجز عن احتوائها الوهاد والفيافي والزرائب.. أم أنها أحلام وأماني.. أم إنك قد صحبت قوماً أربعين يوماً فصرت منهم؟؟ سيدي الوزير كان أجدر بك الصمت.. ولكن بما أن تصريحك أو بشارتك قد ملأت الفضاء ولم يتحقق منها حرفاً واحداً.. نطالبك على الأقل بقول «معليش.. فقد طاشت توقعاتي».. مع السلامة..