يوم السبت الماضي كنت ضيفاً- مداخلاً عبر الهاتف- في برنامج «حتى تكتمل الصورة» الذي يقدمه الزميل والصديق الطاهر حسن التوم، في تلك الحلقة التي استضاف فيها وزير الخارجية السيد علي كرتي.. وسألني الطاهر عن رأيي في سياسة السودان الخارجية والكيفية التي تدار بها هذه السياسة، انطلاقاً من إفادات الوزير على الهواء، فكان رأيي الذي أبلغته مقدم البرنامج والوزير الجالس أمامه، إنها سياسة ينطبق عليها المثل الساخر:«سمك، لبن، تمرهندي» تعبيراً عن التنافر الذي يميز هذه «الخلطة» والذي يشبه إلى حد كبير الطريقة التي تدار بها سياستنا الخارجية، وإدارة ملف الأمن القومي في بلادنا على وجه العموم. فالوزير أوضح بجرأة يحسد عليها، كيف أن أمور البلاد وملفاتها الحساسة، والتي تتصل بشكل أو آخر بالسياسة الخارجية والعلاقات مع الدول الأجنبية، تدار بمزاجية وبأجندات تخص أصحابها المتنفذين، وتصدر فيها القرارات من المرجعية العليا وفق قناعات يستطيع أصحاب الأمزجة أو المصلحة أو الأجندات تشكيلها لدى الرئيس- مثلاً- فيصدر القرار بدون مشورة الخارجية أو حتى علمها.. وقال للطاهر: «ما أنت عارف كيف هي الطريقة، فبعضهم يصور للرئيس أن الأمر إذا عرض على الخارجية سيعطل و (تسيح) القضية ومن الأفضل أن يتخذ القرار فوراً»- هذا ليس نصاً حرفياً، ولكن ما استوعبته الذاكرة- وضرب الوزير مثلاً لذلك بقضية المنظمات الأجنبية التي «طردت بشكل جماعي»، بما أضر بمصلحة السودان وصورته لدى العالم، وقال.. إن الأمر لو عُرض على الخارجية أو أخذ رأيها فيه لتم «بصورة سلسة» ولما تمكنت هذه المنظمات ودولها من تشويه صورة السودان، لأن الخارجية لديها «ألف طريقة»- كما قال- للتخلص من المنظمات غير الملتزمة بالقوانين والاتفاقيات، بدون إثارة كل ذلك الغبار الكثيف الذي يخلِّفه قرار «الطرد الجماعي». كان الموضوع المركزي في الحوار بين مقدم البرنامج وضيفه الوزير هو «قصف اليرموك» ومسؤولية الخارجية في ذلك، سواء كان بسياساتها المتبعة وعلاقات البلاد التي تنسجها مع أطراف، قد تجلب غضب الأعداء وتشجعهم على العدوان، بخلق المبررات والذرائع، ومن ذلك العلاقة بحماس والفلسطينيين، والعلاقة التي يعتقد البعض بأنها تصل لدرجة «التحالف مع إيران»، وأثر ذلك أيضاً على مجمل العلاقات مع المحيط العربي والخليجي منه بوجه خاص. الوزير في هذه المسألة بالذات كان صريحاً وواضحاً، خصوصاً في جانب العلاقة مع فلسطين بوجه عام، وحماس بوجه خاص، وقال إن كل الشعب السوداني بجميع أطيافه يقف إلى جانب فلسطين وقضيتها وشعبها، وأن علاقتهم بحماس معروفة ومعلنة وهي مساندة كفاح وجهاد الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى أن حماس «حركة إسلامية». وقد أيدته في مداخلتي بشأن الموقف الصحيح تجاه القضية الفلسطينية الذي تتخذه الحكومة، وقلت إنه مهما كان موقفنا من الحكومة فإنه لا يمكن أن نطلب منها التخلي عن الشعب الفلسطيني والقضية المركزية للأمة العربية، دون أن يعني ذلك التفريط في أمننا الوطني. أما عن إيران، فقد أوضح الوزير أن لديهم علاقة صداقة مع ايران، ولكنها ليست موجهة ضد الدول العربية ودول الخليج، التي لديها هي الأخرى علاقات مع إيران ومصالح تفوق العلاقات السودانية الإيرانية بعشرات المرات. ونوه إلى أن هذه العلاقة كانت دوماً مثار ريبة وشكوك من الجانب العربي والخليجي، وأن الإعلام الغربي قد ساهم في تصوير هذه العلاقة وتضخيمها بأكثر مما هي عليه في الواقع.. لكنه لم ينس أن يقول إنهم- كحكومة- لم يتمكنوا من توضيح أبعاد هذه العلاقة بما يطمئن دول الخليج والجزيرة العربية.. ورداً على سؤال كان قد وجهه هو ذاته إلى المجلس الوطني- (البرلمان)- حول أولويات سياستهم الخارجية والمفاضلة بين العلاقات مع إيران أو مع دول الخليج، طرحه عليه مقدم البرنامج مجدداً، أكد كرتي أن سؤاله للبرلمان انطلق مع حيثيات وتفاصيل حواها السؤال نفسه، وأكد على تفضيله العلاقة مع الدول العربية والخليجية التي يمكن أن توفر التمويل والاستثمار والمساعدات بأكثر مما تفعل إيران، برغم رغبته في علاقات صداقة عادية مع إيران، لكونها دولة مهمة ودولة إسلامية وأوضح أنه لا يدعو لقطع العلاقات معها، لكنه لا يريد أن تصبح هذه العلاقة مصدر تشويش على سياسة السودان الخارجية. وتدعيماً لذلك التوجه أفاد الوزير أن الخارجية عندما استُشيرت في وقت سابق بشأن زيارة السفن الحربية الإيرانية لميناء بورتسودان، نصحوهم في الخارجية بعدم رسو تلك السفن، وبالفعل لم ترسُ وإن رست في ميناء خليجي-كما قال- لكن في المرة الأخيرة وبعد ضرب مصنع اليرموك رست البارجتان الايرانيتان في ميناء بورتسودان دون استشارة الخارجية وبدون علمها، وأنهم طالعوا أنباء الزيارة من خلال وسائل الإعلام، وأكد أن الخارجية كانت آخر من يعلم.. وهذا هو مربط الفرس! بالأمس طالعنا خبراً رئيساً على صفحة الزميلة «المجهر» يلخص لقاء أجرته الصحيفة مع السفير الإيراني جواد تركبادي قال فيه نصاً: «إن زيارة الأسطول الحربي- الإيراني- لميناء بورتسودان أدت غرضها بإيصال رسالة المحبة والسلام، وأن السفن قد رست بعد أن تلقت إيران موافقة من وزارة الخارجية.. وقد طلبنا من خلال وزارة الخارجية الإذن لرسو هذه السفن، وأن الترتيبات تمت بصورة رسمية.. لأن هذه السفن ليست (قشة) تأتي وتذهب، ولم أرَ رفضاً.. ونحن لا نتدخل في الشأن السوداني، ونحن نتعامل مع السودان ككل». نحن إذاً- نقف مُبحلقين ومندهشين- أمام هذين التصريحين الرسميين المعلنين من قِبل الوزير كرتي بأن السفن الإيرانية رست بميناء بورتسودان بدون علم وزارة الخارجية، ومن جانب السفير الإيراني تركبادي بأن إيران تلقت موافقة الخارجية بعد أن طلبوا منها (رسمياً) الإذن برسو السفن!! إنه مأزق ما بعده مأزق، هذا التناقض الصارخ بين ما أدلى به الوزير وما أدلى به السفير.. والنتيجة المنطقية لهذا المأزق والتناقض هو أن مصداقية واحد من الرجلين أصبحت في مهب الريح. فإما أن يكون الوزير كرتي صادقاً فيما ذهب إليه، ويستدعي السفير ليطلب منه إبراز الإذن الذي حصلت عليه ايران عبر سفارتها في الخرطوم برسو السفن في بورتسودان، وإذا فشل في إبراز ذلك الإذن أو طلبه الذي تقدم به لوزارة الخارجية وحصل بمقتضاه على الإذن، فما على الوزير إلا أن يطلب منه مغادرة البلاد بوصفه «شخصية غير مرغوب فيها -persona non grata- وإذا ما صمت الوزير عن تصريح السفير الذي يكذب ما قال به في البرنامج- وعلى الهواء- بأن الخارجية لم تعلم بزيارة السفن الإيرانية إلا عبر وسائل الإعلام وأنه لم تتم مشاورتها أو حتى إخطارها، فهذا يعني أن السفير تركبادي على حق، وفي هذه الحالة يكون الوزير كرتي قد كذب على الدولة والشعب والعالم، وليس أمامه إلا شيء واحد.. يعلمه هو وتعلمونه جميعاً.. فدعونا ننتظر لنرى!!