تشرفت قبل أيام قليلة بزيارة كريمة تفضل بها عليّ أستاذنا الجليل، الذي أعدّه أحد كبار مفكرينا في مجالات العقيدة والهوية وأشكال الحكم، وهو الأستاذ عبد الله زكريا إدريس، مدير المركز العالمي للدراسات الأفريقية، المعروف اختصاراً ب(ICAS) وهو مركز بحثي تأسس في العام 2005م، وكنتُ أحد الذين شهدوا ساعات طلقه الأولى، ومخاض ولادته، وقد استعان بي أستاذنا الجليل عبد الله زكريا، وزميلي الإذاعي المعروف الأستاذ أسامة حسن شريف مع آخرين عند بداية التأسيس. اقتربت أول ما اقتربت من أستاذنا الكبير عبد الله زكريا في ليبيا عندما كانت تحمل اسم (الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمي) أيام حكم العقيد الراحل معمر القذافي، وتحديداً في منطقة باب العزيزية قريباً من مقر إقامة العقيد الراحل، حيث أقام أستاذنا عبد الله هناك حيناً من الدهر، وقد بقيت مقيماً في (الجماهيرية الليبية) منذ أواخر العام 1988م وحتى أواخر العام 1992م، تعرفت خلالها على المجتمع الليبي الكريم، وعلى عدد غير يسير من السودانيين الذين عاشوا هناك لسنوات عديدة، وبعضهم لقي ربه راضياً مرضياً ودفن في الأراضي الليبية، وكان أستاذنا الكبير عبد الله زكريا ركيزة سودانية خالصة يلجأ إليها السودانيون في الملمات. ويعتبر الأستاذ عبد الله زكريا مع صديق عمره المفكر الراحل الأستاذ بابكر كرار من واضعي اللبنات الأولى للكتاب الأخضر، الذي تبناه العقيد معمر القذافي، واستدعى من أجله الراحل بابكر كرار من مصر بعد ندوة في صحيفة «الأهرام» استدعاء كان أقرب للاعتقال، ليبقى هناك.. ولم يكن أستاذنا عبد الله زكريا يقبل بأن يقال عنه إنه أحد واضعي (الكتاب الأخضر).. بل كان يقول عن نفسه إنه (الشارح الأول) له، وكنت أغالط في ذلك استناداً على أن قواعد الفكر السياسي التي يقوم عليها الكتاب الأخضر، إنما هي ذات القواعد التي استند عليها الحزب الاشتراكي الإسلامي الذي أسسه المرحوم بابكر كرار مع المرحوم ميرغني النصري والدكتور ناصر السيد والأستاذ عبد الله زكريا. المقدمة السابقة طويلة، لكنها ضرورية، وقد كان الهدف من زيارة الأستاذ عبد الله زكريا لنا في «آخر لحظة» إهدائي مجموعة من إصدارات المركز العالمي للدراسات الأفريقية، ومن بينها كتاب (السودان.. عوامل التغيير ومطلوبات الإصلاح) الذي جاء جماعاً لناتج ثلاث ندوات شارك فيها العديد من الأكاديميين والمهنيين أواسط العام الماضي، أتمنى أن نجد فرصة لاستعراض بعضها خلال الفترة القادمة، لكن أهم ما استوقفني خلال مراجعتي لذلك الكتاب، هو ما جاء تحت عنوان (مشروع خريطة طريق من أجل وطن مستقر) للبروفيسور بركات موسى الحواتي، وفيه إشارة لمعاناة السودان في عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهو ما دفع الشعب السوداني إلى الخلاص من تلك المعاناة بتجربتين رائدتين هما ثورة أكتوبر 1964م وثورة أبريل 1985م بدعم إيجابي من الجيش فرضته شرائح وطنية من الضباط خارج النمط العسكري الصارم. بروفيسور الحواتي يرى أن المرحلة التي أعقبت المفاصلة في 1999م وحتى الوصول إلى اتفاقية السلام الشامل في يناير 2005م هي المرحلة التي سعى فيها خصوم النظام إلى تفكيكه عن طريق الضغوط الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية، وعن طريق تداعيات نيفاشا القوية (دولتان في دولة) وتقرير المصير، والمشورة الشعبية، واستفتاء أبيي، ثم تدويل قضية دارفور، وقرارات مجلس الأمن وصناعة أزمة اقتصادية عاصفة وصورة قاتمة للفساد وغياب المساءلة أو تراخيها أو (تنويمها) وموقف النظام الدولي في العداء للنظام الحاكم في السودان ما زال قائماً، حيث قالت مادلين أوربرايت عام 1992م في إحدى المناطق (المحررة) لصالح الحركة الشعبية: سوف نسقط هذا النظام سواء بالقوة العسكرية أو السياسية. ما قدمه لي الأستاذ عبد الله زكريا والمركز العالمي للدراسات الأفريقية هو خلاصة للأفكار والإستنتاجات المبنية على واقع ومقدمات غاية في الوضوح.. وقد جعلني ذلك أتساءل إن كان هناك فرصة أو أمل في التصالح مع (المجتمع الدولي) الذي اختطف الغرب اسمه، وإن كان التجديد في الهياكل وأنماط الحكم و(صناعة) دستور جديد، سيعمل على تخفيف الضغط على بلادنا..!! الغرب ومن خلفه الولاياتالمتحدة وكل الدول الأوربية المتحالفة معها لن يرضى عن النظام ولا عن السودان إلا إذا تم استبعاد المشروع الإسلامي، وإبعاد كل الرموز التي تمثل النظام في كل مراحله السابقة واللاحقة.