أزعم بعد تأمل محايد أن تراث العربية الأساسي في النثر الفني يقوم عملياً على اثنين هما: أبوعثمان بن عمرو الجاحظ، وأبوحيان التوحيدي.. أما ما تبقى، فكماليات تسد بعض النقصان، واكسسوارات تزين حيطان المكان. إن أبلغ ما في الكتابة هي قدرتها على البقاء ونجاحها في مخاطبة الإنسان في كل زمان ومكان.. وكتابات الجاحظ من هذا النوع الذي يطرب له أهل القرن العشرين بالمتعة نفسها التي طرب له أهل القرن الثاني الهجري فالمعنى ما يزال مشحوناً بالطاقة والحيوية، والديباجة ما تزال على ما كانت عليه من حُسن ورِواء، فكأن جملة الجاحظ جوهرة لا تزيدها الأيام إلا لمعاناً وبريقاً. وسر حب الجاحظ في هذا القرن بالذات ينبع من حديثه عن زمن يشبهنا فكأنه كان ينظر إلى أيامنا حين قال: «خفض عليك أيها السامع، فإن الخطأ كثير غامر، ومستولٍ غالب، والصواب قليل خاص، ومقموع مستخف وكنت أتعجب من كل فعل خرج عن العادة، فلما خرجت الأفعال بأسرها من العادة صارت بأسرها عجباً، فبدخولها حكها من باب التعجب، خرجت بأجمعها من باب العجب». أخطر أنواع الكُتّاب هو ذلك الكاتب الذي يمرر رأيه دون صراخ، وكانت عند الجاحظ تلك الميزة التي مارسها بأقنعة مختلفة، واستطاع أن يهجو الفرس في عز تسلط آل ساسان، ولا تستطيع اليوم إلا أن تعجب من تلك المناظرات البريئة بين «الكلب والديك» التي ملأ بها كتاب الحيوان، فإذا أعدت قراءتها وعينك على ما بين السطور وجدت نصاً أدبياً جاداً يغوص في أعماق السياسة ويفاخر بين الأجناس، والقصائد والثقافات ويحتاط لنفسه وسلاسته فيصنع تلك المصائب الناطقة الكفيلة بقطع الألسن والأعناق في أرق الأساليب وأكثرها جاذبية وبعداً عن الشبهات. في المدينة التي وُلد الاعتزال في مسجدها، وُلد الجاحظ وخطا أولى خطواته في مجتمع مواكب، كل ما فيه يشجع على شحذ الذهن وتفتح الآفاق والإقبال على المعرفة، فقد كانت البصرة ككل المدن البحرية حرة منفتحة ومتسامحة وفتح الجاحظ عينيه على الدنيا ليجد الأصمعي وأبا نواس في بيئة تحترم الثقافة وتعز الكتاب والكُتاب، فوزع وقته بين بيع السمك ودكاكين الوراقين والاستماع لشيوخ علم الكلام، ولعل ذلك التفتح الحر هو الذي فاض على كتابته ذات النص النضير والدائم الخضرة. كان لون بشرته قاتماً وذلك ما جعل بعض المؤرخين ينسبونه إلى أصول أفريقية عززها الجاحظ بفخره بالسودان حين ألف «فخر السودان على البيضان»، وذلك كتاب لعب دوراً كبيراً في ثورة الزنج.