* سيبقى د. عبد الله الطيب صاحب «نصٍ كبير»، قابل باستمرار للقراءة وإعادة القراءة والتأويل وإعادة التأويل. وقد يجد الحداثيون فيه «أيضاً» وجوهاً كثيرة يحبونها. وقد يفاخر بعضهم (بكأسه التي تحطمت)، مثلما كان يفعل د. محمد عبد الحي حين يحتدم الجدل حول تاريخ شعر التفعيلة في العالم العربي. وقد يذهب آخرون كالدكتور بشرى الفاضل إلي أن هذه «الكأس»، ليست قصيدة تفعيلة بل قصيدة نثر. * في العام 1987م أصدر د. عبد الله الطيب كتيباً «بامفليتا» صغيراً (39) صفحة من متوسط القطع بإسم (ذكرى صديقين). والصديقان المعنيان هما: جمال محمد أحمد والدرديري محمد عثمان صائم ديمة (معلم الانجليزية في وزارة التربية السودانية - توفى في العام 1985م - وهو غير الزعيم الوطني الاتحادي المعروف). ولكن المفارقة الجميلة، هي إن قصيدتي الرثاء ليستا أجمل ما في الكتيب (ولسنا معنيين بهما هنا) - وان كان د. عبد الله الطيب يتميز في مراثيه ونيلياته (قصائده في النيل) عن جملة أشعاره الأخرى. الأروع هي تلك «المقدمة» النثرية المتيعة التي استهل بها الكتيب معنوناً إياها ب (من سلال اللا معقول). والمقدمة أشبه بكتابة حرة مسترسلة ومتنوعة، تقع بين شعر ونقد وترجمات جميلة لشعراء انجليز من قبيل شيلي وتوماس هاردي وسيرة ذاتية - لم تخل من اعترافات جميلة وذكريات مكتوبة بصدق وألم وحزن ومتعة. وفيها أيضاً إشارات نقدية وتاريخية مهمة تتدفق بتداع خاص. * وما جعل هذه «المقدمة» تتميز وتمتع وتفيد في الآن معاً ,هو الأسلوب الذي نحاه الكاتب. وجاء أشبه ما يكون بأسلوب الظاهراتية (Phenomenology) المعروف في أدبيات النقد الحديث. و الظاهراتية ترتد نظرياً إلي ادموند هوسيرل(Edmund Husserl) ، حيث تُقارب الحقيقة الفلسفية عبر منهجٍ يعوّل باستمرار على تعقد محتوى وطبيعة الوعي الإنساني. ومن أجل ذلك , نقوم بتأجيل وتعليق وعينا الظاهر بالعالم ومعه مناهجنا النظرية , وندلف مباشرة إلي صلب الظاهرة (النص) لنراها منعكسة علينا بكل شدة العاطفة و حرارة الوعي العميق وتموجات الشعور الرطب وسذاجة الحلم الدافئ. وهذا ما جعل المقدمة - على صغرها - تسبح في زمانات وأمكنة وأسماء متعددة من الأدب العربي القديم والحديث والأدب الغربي والأدب السوداني العامي والفصيح. وجعلها تحفل أحياناً بإفادات وتأملات تلوذ بالغموض. « في التجارب أن الحب لا يسأمه الإنسان إلا بعد الوصل، أما قبل الوصل فلا. حتى بعد اليأس المطلق والتسلي تبقى من الأشواق بقية لا يذهبها إلا الفناء. سيصيب الفناء صورة جيوكندا وشعر امرئ القيس «. * وهذا الأسلوب، لا يجد مرجعيته فقط في (استطرادات الجاحظ وتلاميذه من كتاب القرون العربية المزدهرة كأبي حيان التوحيدي) كما يوحي الكاتب، إذ قال: « والجاحظ العظيم كان كثير الاستطراد وأصله من بلادنا». ولم يورد الكاتب ما يؤكد صحة هذا الادعاء الأخير - أي أن الجاحظ سوداني وكأنه يقول أنه جعلى أو شايقي أو رباطابي أو حلفاوي مستعرب - ولكنها، على أية حال، دعوى غير مستبعدة وغير مهمة في الآن معاً - إذ ليس للفكر والأدب وطنٌ أو جنسية وفي هذا ترقد قيمتهما «المتعالية» دوماً . وربما استند عبد الله الطيب على غموض أصل الجاحظ وعلى ما تورده التراجم عن شكله وربما استند أيضاً على رسالة الجاحظ الشهيرة (فخر السودان على البيضان) التي يعدد فيها مفاخر ومزايا السمر والسود على البيض. ولكن الرسالة تقع ضمن رسائل الجاحظ السياسية التي حاول فيها التخفيف من غلواء الصراعات في عصره - خاصة بين العروبيين والشعوبيين - و التي بدأت تدب في جسد الإمبراطورية العربية الإسلامية المترامية الأطراف. * واشتملت هذه المقدمة على إشارات نقدية قيمة تحيل إلى رؤى حديثة، مثل « كان العقاد رحمه الله شديد التأثر بوليم هاردي (المقصود هو توماس هاردي (1840-8291).. الروائي والشاعر الانجليزي ذائع الصيت وكما يرد لا حقاً في النص ذاته) وربما سرق منه. والسرقة فاشية في الشعر... في شعر هاردي تفكير وتعب وعاطفة ولكن منحوتة نحتاً من حجرٍ شرس. نحوٌ من ذلك عند العقاد « . ويستمر الكاتب ليربط بين شكوكية هاردي وشكوكية أبي العلاء المعري , مشيراً إلى أن هاردي يستحق أن يكون ضمن كوكبة الشعراء الذين أدخلهم أبو العلاء الجنة في رسالة الغفران جنباً إلى جنب مع الأعشى والحطيئة. ويتداعى بعد ذلك ليقول فجأة « تعجبني عاطفة شيلي المندفعة الفوّارة» : حيهلا بك أيها الروح المرح لم تكن أبداً أنت من الطير أنت الذي من السماء أو قريب منها تصب ملء قلبك في نغمات مترعة من الفن اللا مصنوع . * وبطريقته المستطردة المتداعية يعرج على الآراء والنظريات التي حاولت تعريف «الجزالة» مفنداً إياها واحدة تلو الأخرى وخالصاً إلى أن « الجزالة مما يُدرك ولا يحصره التعريف... بعض الجزالة من العلم والدُربة والفصاحة، وسائرها إيقاعي روحاني وجداني معادنه الملكة وهو هبة من الله «. * ومن اعترافات عبد الله الطيب الجميلة ما جاء في هذه المقدمة من أنه « شتم» محمد احمد محجوب في مقال وقعه باسم مستعار (ابن جلا). ولا تخفى العبارة إحالتها إلى الحجاج بن يوسف. وكان عبد الله الطيب وقتها يافعاً ناشئا و»حدثا مغرورا» كما قال عن نفسه في «محضر» الاعتراف، فيما كان المحجوب في ذروة تألقه الوطني والسياسي وفي قمة حضوره القانوني والأدبي في البلاد. وهاج المحجوب وغضب على هذا التطاول، ولكن رئيس التحرير محمد عشري الصديق - ملتزماً المبدأ الصحفي الأصيل -حجب عن المحجوب الاسم الحقيقي لابن جلا . وجاء في الاعتراف الذي حوى مديحاً شديداً للمحجوب أنه صحح ذلك الخطأ حينما لم يصوت في انتخابات العام 3591في دوائر الخريجين إلا لاثنين: محمد أحمد محجوب وحسن الطاهر زروق. * وفي لجة هذه الكتابة المتداعية لا ينسى الكاتب أن يحدثنا عن»حلمته « التي تنبأ فيها بموت الشاعر توفيق صالح جبريل» رأيت مصباح رتينة ساطعة ... ثم انشق جانب من شعلة «الرتينة» فداخلتها حمرة استدارت بقوس داخل بياض ضوئها، وجعل ضوؤها يخبو شيئاً فشيئا بعنقها المكسور. قصصت رؤياي على مهدي (يقصد محمد المهدي المجذوب) وقلت له هذا توفيق لنذهب إليه نعوده... وإذا به وقد أظلت عينيه كُهبة النهاية... وخبا ذلك الضوء الساطع». * «ذكرى صديقين»، كتيب جميل ماتع متيع، حاول فيه الكاتب أن يجمع كل ما يعرفه، كل ما عاشه وأن يقول كل شي وبأسلوب حر متداعي.. أسلوب «ظاهراتي» جميل. وجميع ذلك في مقدمة قصيرة أسماها (من سلال اللا معقول).