أذكر أنني كنتُ قبل عامين ضمن وفد صحفي رافق السيد رئيس الجمهورية عمر حسن أحمد البشير في إحدى زياراته إلى جمهورية تشاد الشقيقة، وجاء مقام الرئيس ونزله في منزل السيد إدريس ديبي رئيس تشاد، رغم أن العاصمة «إنجمينا» كانت تعج بوفود رئاسية رسمية عالية المستوى في مناسبة تنصيب الرئيس ديبي لفترة رئاسية جديدة، وتوزعت إقامة الرؤساء على فنادق «إنجمينا» التي كانت تنعم بجو خريفي حالم يشبه أجواء بلادنا في أغسطس الغائم أبداً. وكنا نجلس في بهو المنزل الواسع، وقد فسّر لنا البعض معنى أن يقيم الرئيس البشير في منزل شقيقه الرئيس «ديبي» دون سائر الرؤساء، ولم نكن في حاجة إلى تفسير، فالدلالة واضحة، وأخذنا نتداول في المعنى والمغزى، ثم عرجنا نحو موضوعات أخرى، كان من بينها مناقشة كتاب «نبي من بلاد السودان.. قراءة مغايرة لقصة موسى وفرعون» خلص فيه كاتبه الشيخ النيل عبد القادر أبو قرون إلى اكتشافات نظرية مغايرة لقصة نبي الله موسى عليه السلام وفرعون جعلت من السودان مسرحاً للحدث والرسالة، وجعلت شخصيتيهما سودانيتين، بل أن المؤلف طرح إستنتاجاً جريئاً عندما قال:«قد يكون فرعون موسى هو الفرعون الأسود المقاتل تهراقا الذي جاء ذكره في التوراة- سفر الملوك الثاني وسفر أشعيا- وكان قد إتخذ «تانيس» عاصمة له وهي ما تعرف ب«صان الحجر» ليكون قريباً من بلاد الشام ليأمن خطر الأشوريين، وقد خاض تهراقا حروباً ضد الأشوريين بمن فيهم ملوك وأمراء فلسطين وفينيقيا ويهوذا». كنا قد فتحنا الموضوع، وإلى جانبي أخي وزميلي صديق العمر الأستاذ أحمد البلال الطيب، وأدلى كل منا بدلوه حول الموضوع، ثم تحدث السيد الرئيس حديثاً تضمن قدراً هائلاً من المعلومات الدينية والتاريخية التي ربما لا تتوفر إلا لأهل التخصص والبحث. إلتفت إليّ الأستاذ أحمد البلال وقال لي هامساً: «يا أخي الجماعة ديل ما هينين» وكان يقصد جملة أهل الحكم في الانقاذ وأنهم أصحاب خلفية ومنهج مؤسس على خلفية فكرية ومعتقدات راسخة. قلت وقتها للسيد الرئيس ولمن كانوا معه في البهو الواسع داخل منزل الرئيس إدريس ديبي، إن اهتمام السودانيين بأمر الدين والقصص القرآني، أو المرتبط به أمر واضح، ويتجلى أكثر في انتشار الاذاعات الدينية مثل «الفرقان» و «القرآن الكريم» و«طيبة» وإذاعة «الكوثر» التي تعتبر أول إذاعة دينية متخصصة، تقدّمت ما جاء بعدها، رغم تخوف البعض من نشوء إذاعات خاصة رأوا- وقتها أنها قد تفسد العقول والعقيدة وسط الشباب، وأراد الله أن تنتشر الاذاعات الدينية وأن ينحسر غيرها. وأذكر أنني أشرت إلى دراسة قام بها خبير من جنوب أفريقيا وقدمها لإدارة التلفزيون في السودان، شملت مسحاً لعدد من الدول العربية، جاء فيها إن مواطني دول الخليج يفضلون مشاهدة الدراما على غيرها، بينما يفضل أهل المغربي العربي الكبير مشاهدة الدراما مضافاً إليها الرياضة، في الوقت الذي يفضل فيه المصريون مشاهدة ومتابعة البرامج الدينية، وقد كانت النتيجة مفاجئة لتوقعاتي إذ كنت أعتقد أن المصريين يفضلون الدراما والفنون أكثر من غيرها. وقصة أخرى حدثت قبل أعوام قليلة، كان مسرحها منزل صديقنا وأستاذنا الشاعر الكبير الراحل الأستاذ سيد أحمد الحردلو، في أركويت، وكنا في زيارة إجتماعية رمضانية له، صحبة السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان محمد طه، والأستاذ عبد الباسط سبدرات- الوزير وقتها- ومعي زميلي الراحل الأستاذ عمر محمد الحسن (الكاهن) رحمه الله، ودار حديث طويل، متشعب ومتفرع عن الأدب والشعر، عرج بعد فترة إلى الدراما، ومناقشة مسلسل «الملك فاروق» الذي كانت تعرضه إحدى الفضائيات العربية وتحدث السيد النائب الأول حديثاً ناقداً للعمل التلفزيوني، مقدماً حصيلة معرفية وتاريخية عن تلك الحقبة، بما يدل على إهتمامه بالتاريخ والشأن السياسي في المنطقة. خرجت قبل يومين بنتيجة (خاصة) مفادها أن السودانيين أصحاب أمزجة مختلفة، يغلب عليها الطابع السياسي في متابعتهم للقنوات السودانية، لكن التقييم سيكون ناقصاً إن لم نتبع منهج التصنيف النوعي والفئة العمرية، وذلك سيتيح لنا الخروج بنتيجة مفادها إن النساء والفتيات يفضلن مشاهدة الدراما- ويا حبذا إن كانت تركية- بينما يفضل الشبان مشاهدة البرامج الرياضية، لكن النساء والفتيات والشباب يجتمعون على شاشات الفضائيات السودانية التي تقدم البرامج الغنائية تلك المرتبطة بالمناسبات الخاصة، بينما الأطفال هم الأكثر تحكماً في أمزجة الكبار الأمرالذي يدعوك إلى أن تتخيل أكثر المشاهدين لبرامج الأطفال من الكبار و سيقومون إلى قضاء حوائجهم حبواً، أما الرجال فإنهم مضطرون إلى مشاهدة ما يشاهده أصحاب الحضور الأقوى أمام شاشات التلفزيون من أفراد الأسرة الذين يمسكون بجهاز التحكم من بعد (الريموت كونترول).. وإذا تُرك الأمر لهم لشاهدوا القنوات الرياضية والدينية.. وربما أفلام الاكشن. خلاصة الخلاصة إن الأمزجة السودانية مختلفة، ومتقلبة وأذكر أنني قلت في أول اجتماع دعا له الأستاذ محمد حاتم سليمان في أول فترة تعيينه مديراً للتلفزيون، مع عدد من معدي البرامج التلفزيونية دعانا له مشكوراً، أذكر أنني قلت له إن أصعب مهمة تواجهه هي إرضاء المشاهد السوداني، ولن يرضى مشاهد عن التلفزيون إلا إذا خصصنا لكل مشاهد محطة خاصة تقدم له ما يريد ويرغب.. وظل صديقنا الأستاذ محمد حاتم سليمان، يستشهد بتلك المقولة إلى وقت قريب.