بناية شاهقة أنيقة السطوح ممردة بما يشبه الرخام . هي في حقيقتها صفائح لامعه. غرف الاستقبال تعج بالحركة، شباب الخدمات الأمنية وحدهم يعملون بهمة ولكن لا يبدو أن الأمر لتنظيم الدخول والتأكد من هوية الزوار كما هو متوقع في الخطط الورقية بل لتهيئة أجواء هادئة للموظفين المتبطلين ! رغم وجود أجهزة اتصال في أحضان موظفي الاستقبال إلا أن الاتصال بالداخل شبه مقطوع، أما لعدم وجود الرد أو لأن الموظف لا يريد مقابلات وهي بالطبع ليست شخصية، وعلي العكس من ذلك أصحاب العلاقات الخاصة هم وحدهم الذين يسمح لهم بالدخول. شباب الاستقبال يبدو عليهم الجدية والرغبة في العمل ولكن تشفق عليهم لأنهم هنا مطلوب منهم أن يحملوا (وش القباحة) ويضطروا للكذب لحماية بلاطجة الوظيفة. وظيفتهم أن يضللوا الزائر بمصطلحات محفوظة ومكشوفة المعنى مثل (الموظف في اجتماع) بعد اجتياز غرفة الاستقبال لا تقابلك سوى غرف فارغة مفتحة الأبواب . بالكاد قد تصل إلي غرفة من غرف الإدارة المالية لتجدها مكتظة بمجموعات من النسوة ذكرنني بمجالس ضل الضحى في الحارات . مواضيع تقليدية تسمع تفاصيلها في نقاش النسوة اللآتي يتكلمن في وقت واحد. وأنت واقف في انتظار إحداهن متى تفرغ عناوين شتي: الماهية، السلفية، الصندوق، الأجهزة الكهربائية.. بينهن امرأة تتزىَّ بنقابٍ كاملٍ وقفت تصلي ولعلها صلاة ضحى، والجمهور ينتظرها في الشباك !! هذا النوع من التقوى الكاذبة ذكرتني بتلك المجموعة من الموظفين الذين كانوا يجلسون عقب صلاة الظهر في مسجد الوزارة الأنيق لتلاوة القرآن.والشبابيك خالية من الموظفين! يبدو أن السأم من الوظيفة، وغياب الرقابة، أفقدتهم الإحساس بالمسؤولية، ثم طال عليهم الأمر حتى حسبوا أنهم يحسنون صنعاً بالتعبد أثناء ساعات الواجب!. مكاتب مكتظة بترابيز عددها أكبر من المطلوب.. ولم يكن ذلك لضيق في مساحة الغرفة، ولكن تبدو تجاوزات التعيين.لافتات على الأبواب تحمل كلاماً فيه(نكتة صامتة) مثل: إعلام، علاقات عامة، نائب المدير .. الإدارة العامة .. عناوين لاتفيد السائل كثيراً. حجرات مجددة الأساس ! فيها الجدر الزجاجية التي تخفي الداخل، وتكشف الزائر ، وترابيز أبنوسية مستوردة بدلاً من تلك الخشبية الخضراء التي كانت تنتج محلياً في (المخازن و المهمات لم أجد في تلك الوزارة إلا العنصر النسائي هو الغالب، دخلت على أحداهن وانتظرت حتى تركت سماعة التلفون. ظلت تتحدث والصوت يعلو ويهبط طبقاً لدسامة(القطيعة)، عملية الاستغراق في الونسة جعلتها لا تأبه كثيراً بمن حولها . وعلى بعد خطوات معدودة منها نامت إحداهن متكئة علي معصم مرصع بأساور لم استطيع أن استبين فيها ذهباً حقيقياً أم صينية كاذبة . رقدت على تربيزة خالية من الأوراق، ساهمة العينين غارقة في السأم، مفتحة العينين كأنها لا ترى شيئاً!!. لم أنتظر طويلاً في استحضار متعة تسليني ، حتى استغرقت بدوري في غيبوبة التساؤلات : ماذا يعمل هذا العدد من الموظفات والموظفين؟ هل القيمة النوعية لهذه المؤهلات مواكبة للمطلوب؟ وما هي مقدار الخسارة التي تنفق على هذا النمط من العطالة المقنعة؟. - لله در الكادحين في بلادي من عمال ومزارعين ويا ويل الوطن من عائدات بترول ابتلعتها أفواه الفساد!!. استيقظت على حركة كسرت الرتابة حولي وبإشارة من امرأة بيضاء البشرة تجاوزت سن اليأس بقليل ، علمت أن هذا الشاب الذي يقف أمامي هو رئيس المكتب .. أين كان كل هذه المدة ؟ لا أحد يجرؤ على السؤال. و قبل أن أكمل مهمتي التي تأجلت إلى ميعاد قادم ، وفي حضرة رئيس المكتب أصدرت تلك المرأة التي كانت تنام على معصمها صوتاً داوياً على شكل تثاؤب عريض، إرتَجْ له المكان وانتبه له الحاضرون كأنه صرخة الميلاد . قفزت واقفاً وكنت قد قررت الجلوس دون إذن من أحد ، وقد بلغ بي الضجر والاختناق مبلغاً ،وخرجت كأني لم آت لشيء وفي الحقيقة لا شيء هناك. في الطريق المسفلت المحاط بالنجيل والأشجار العتيقة والذي يقودك للبوابة الخارجية دخلت في دوامة ( كشف الحساب) القصة أصبحت واحدة في جميع وظائف الخدمة المدنية ولا نستثني العسكرية أيضاً. المكتب لا يعمل فيه إلا موظف أو اثنان ، حتى هذا الذي يعمل أحد رجلين . إما أنه لا يعمل إلا بحوافز ورشاوى أو انه نظيف، ولكنه ضيق الصدر كسول : ما كان يمكن أن ينجزه في دقائق يؤخره لغد مثل : تعال يوم الأحد ، إذا صادفت الزيارة يوم الأربعاء . معلوم أن ( يوم الخميس ) يوم إداري ، ويوم الأحد بداية الأسبوع يذهب جله لأن الموظف بعد الإجازة الطويلة التي إمتدت لثلاثة أيام بحاجة إلي (تدشين نفسي) حتى يتلائم مع متطلبات العمل.أما طيب الذكر(يوم السبت) فقد جعلته السياسات الغبية يوم إجازة. هذا القرار عالج آثار الإنهيار في الخدمة الحكومية بمزيد من الراحة. كسلان زادوا له أيام نومه!! سلبيات هذه المعالجة الغبية إمتدت للمدارس وجيوب أولياء الأمور الذين يدفعون الملايين ، ساعات التعليم نقصت رغم المعالجات الضعيفة لتلافي هذه الخسارة المحصلة أن أيام الأسبوع تقلصت إلى ثلاثة أيام فقط من ستة.سيظل الموظف عاطلاً نصف أيام الشهر وإذا تجاوزنا مشروعية الأجر ، سيخرج إلى المعاش دون مهنة، وقد ماتت هِمته. سيبدأ في الشيخوخة تحت ضغوط الحياة من الصفر، والمحظوظ منهم من يجد أسرة تحميه ، وأشك في جدوى هذا الخيار إن لم يربي أطفاله من الحلال! وأنا على أعتاب البوابة الخارجية للوزارة تركت هناك السؤال الأخير .. أليس من حقوق الملايين أن يذهب هؤلاء إلى بيوتهم تحت بند الصالح العام؟!!