لأن الصحفي يملك القدرة على الرصد والمتابعة والتعبير، ويملك مع ذلك الوسيلة التي ينقل بها مشاهداته ورصده للأحداث إلى الآخرين، يظل هو أفضل من يكتب تاريخ عصره من خلال معايشته للأحداث وقربه منها، وتأثره بها أو العكس. كثيراً ما نعيش أحداثاً تاريخية لا نعرف قيمتها أو قدرها حين حدوثها، وتعلق بالذاكرة وتصبح ذكرى تتحول مع الأيام إلى تاريخ يروى، بل يستحق أن يروى، لذلك أصبح الصحفيون في بلاد الغرب، والبلاد المتقدمة والمنفتحة، هم أكثر فئة تكتب التاريخ بعيداً عن مناهج البحث التقليدية. صحيح أنه تاريخ من وجهة نظر واحدة، لكن للصحافة وأجهزة الإعلام أكثر من عين، وإن كانت لا تملك أكثر من لسان واحد. كثر الحديث هذه الأيام عن إسرائيل والاعتداءات الإسرائيلية، وزادت وتيرة تناول أفعال الدولة الغاشمة بعد أن (لمس) المواطن السوداني (حرارة) نيران الاعتداءات المباشرة في مجمع اليرموك الصناعي، وزادت بالتالي مساحات الكراهية لبني إسرائيل دولة وشعباً، وعملت العصابات الصهيونية على تركيز هذه الكراهية وترسيخها في نفوسنا بما تقوم به من أفعال سيئة ومسيئة ورديئة ضد الشعب (الغزاوي) في قطاع غزةالفلسطيني أوصل ضحايا إعتداءاتها إلى أكثر من خمسين شهيداً بينهم نساء وأطفال ومدنيون في أيام قليلة، وظل هذا هو هاجس الناس ليس في السودان وحده، بل في كل مكان.. بل إن شبابنا وصغارنا الذين كنا نظن أنهم لا يدركون ما يجري حولهم، باتوا هم الأكثر اهتماماً بالأحداث هناك، وقد سألني أصغر أبنائي- مهاب- وهو لم يزل يدرس في المرحلة الثانوية عن موقف العرب من الاعتداءات الإسرائيلية، وكان يسألني- متفائلاً- عن نتائج قصف كتائب القسام للعمق الإسرائيلي بالصواريخ، وكنتُ أجيب عليه بما أعرف، وأزيد على ذلك بأن أوجهه إلى متابعة الأحداث من خلال أجهزة الإعلام والفضائيات المختلفة. أذكر تماماً تفاصيل زيارة قمت بها إلى شبه جزيرة سيناء، وتحديداً إلى محافظة شمال سيناء بالشقيقة مصر في أكتوبر من العام 1982م ضمن وفد رسمي ضم نواباً برلمانيين في مجلس الشعب الرابع إبان الحكم المايوي، ضم وقتها النواب الشباب ليشاركوا مع زملائهم المصريين في فعاليات أول اجتماع لشباب برلمان وادي النيل، وتقرر أن يكون في سيناء ويبعث برسالة إلى العالم تقول بأن شعب السودان كان أول من ساند أشقاءه في مصر عقب الجلاء الإسرائيلي من سيناء في ذلك العام 1982م، وخاطب الجلسة الافتتاحية الرئيسان جعفر محمد نميري- رحمه الله- ومحمد حسني مبارك- فك الله أسره- كما خاطبها رئيسا البرلمانيين ورؤساء بعض اللجان فيهما، وكنت وقتها محرراً صغيراً يشق طريقه في عالم الصحافة، وكنت مكلفاً بتغطية أعمال مجلس الشعب، أو ما يطلق عليه اسم المحرر البرلماني، وكان معي من الزملاء الأساتذة الدكتور حديد السراج رئيس القسم السياسي بالإذاعة وقتها والمرحومان صلاح عبدالرحيم الأمين من سونا، والجيلاني عبد الحافظ اللذان فقدناهما وهما في شرخ الشباب وقمة العطاء وآخرون. تلك الرحلة- كما كتبت عنها آنذاك- أكسبتني الكثير ومن بين أبرز وأهم المكاسب تعرفي عن قرب على عدد من نواب الشعب الذين ظلت علاقاتي بهم مستمرة حتى يومنا هذا، ومن بينهم الأخ والصديق (الكوماندور) دانيال كودي، والبروفيسور مختار الأصم الذي تقلد الوزارة وهو دون الثلاثين وقتها، وغيرهم. وأكسبتني تلك الرحلة معرفة جديدة بطبيعة شبه جزيرة سيناء التي تسمى جزيرة الفيروز والقمر، إذ يعود اسمها كما تقول الروايات إلى «تركيبة» مشتقة من اسمين الأول هو «سين» إله القمر في بابل القديمة الذي انتشرت عبادته في غرب آسيا ومن بينها فلسطين، والثاني هو اسم «تحوت» إله القمر المصري الذي كان له شأن عظيم في سيناء فارتبط الاسمان ليصبحا «سينتحوت» لتصبح مع مر الأيام «سيناء». كما أكسبتني الرحلة- وهذا هو الأهم- معرفة أكثر ب«إسرائيل» بعد أن زار وفدنا مدينة العريش عاصمة شمال سيناء وعقد اجتماعاته في قاعة مجلسها المحلي، حيث خاطبه الرئيسان نميري ومبارك، وزرنا مدن «الشيخ زويد» و«بئر العبد» و«أبو زنار» ومدينة «رفح» المصرية، وقبلها بكيلومترات قليلة مستعمرة «ياميت» الإسرائيلية التي كانت نموذجاً للمستوطنات الحديثة.. وقد شاهدنا هناك نموذجاً للخراب والدمار الذي تنفذه اليد الإسرائيلية، ونموذجاً للعقلية المدمرة.. لقد رحل الإسرائيليون من «ياميت».. وتركوها، لكن لم تكن هناك مدينة.. ولا يحزنون. دمر الإسرائيليون كل مباني مستعمرة «ياميت»، مسحوا بالمنشآت الأرض، وهدموا المستشفى الصغير بما فيه من أدوية، حتى أن رائحة الدواء كانت تطغى وتسود بعد رحيلهم بستة أشهر.. ولم يتركوا مبنى قائماً إلا مبنى الكنيس اليهودي، الذي أعجبني ما كتبه المصريون من أهالي سيناء على حوائطه الداخلية، بالفحم أو بالطباشير الملون من عبارات أخفها: «خيبر خيبر يا يهود».