صفوف المبدعين وهم ينتظرون عبثاً دعماً ما من الحكومة أو صندوق تذكرني بأشياء ومعاني منها: أن بواعث الإبداع لا تقوم إلا من كبرياء. وهذا الكبرياء الفني يعاني من إشكالية حادة في التعايش من ضرورات التعايش اليومي. المفارقة أن الفنان إنسان لديه قدرة تشكيل المستقبل ولكنه(الآن) عاجز عن الإيفاء بمتطلبات السوق.على عكس التاجر الذي تجده دائماً مقتنعاً بالحاضر ولا يهمه كثرة ملاحقة(الماضي) (المستقبل) لديه هو الحاضر.أما المبدع مفتتن بالماضي يحتاج من يرعى حاضره. لهذا الويل كل الويل للمبدعين في الدول الفاشلة، وهي التي لا تستطيع تنظيم شؤون شعوبها و(السودان) في قائمة هذه الدول بل رقم (2) !! ولكن رغم كل ما تقدم يستطيع مبدع أن يفلت، ويقدم شيئاً للبشرية، هذا حدث في قصة مبدع ألماني هو(هنري لوزي)يعتبر الآن رائد النظريات التربوية الحديثة . وضع أسس قيام المؤسسات التعليمية المعاصرة كالمدرسة والروضة. عاش فناناً فقيراً في ألمانيا حتى 1838م وألمانيا آنذاك دولة فاشلة لا حياة كريمة فيها إلا للجندي والتاجر !! هذا المبدع ألالماني له نظريات عديدة ملأت الآفاق حتى تعددت ألقاب هذا العالم وهناك من سماه : واعظ الخلق! حامي الفقراء! أو أبو الأيتام ! مؤسس المدرسة الحديثة !! من أقواله التي ظلت حية :- * يجب أن نبدأ بحواس الطفل وعمله لفتح أبواب المعرفة والعلم لديه. * الهدف من التربية هو مساعدة الطفل على تنمية قواه العقلية وإيقاظ مواهبه وليس ملء رأسه بالمعرفة. * يجب أن يتعلم الجغرافيا من البيئة التي حوله قبل إدخال الخريطة. والإستعانة بالمحسوسات في تعليم الحساب. * تعليم المفردة دون ربطها بمعان واضحة غير مجدية . * القسوة تفسد الطبيعة الفطرية الحسنة للطفل. المفارقة الأولي في هذه القصة أنه مع نصائحه المتعددة التي جمعها في كتاب كبير ، كان يرى أن المدرسة لابد أن تكون صورة من الأسرة المتحابة والسوية.! رغم كل هذا الذي يقال عنه عاش فقراً مدقعاً حتى هربت منه زوجته وإبنه وظل حتى آخر عمره يعيش وحده ومات منهكاً من الحياة وقد طلب أن يكتب على قبره(هنا يستريح هنري). أما المفارقة الثانية فقد كانت في قوله (عشت كالشحاذ لأعلم الشحاذين ليعيشوا مثل الإنسان) الغريب ليس في أن الدولة في أوربا في ذلك الوقت لم تكن تراعي حقوق المبدعين كما يحدث الآن في الدولة السودانية. ولكن الأغرب في تبريره للشحاذة (لأعلمهم أن يعيشوا مثل الإنسان) وهو نفسه لم يتذوق حلاوة هذه الإنسانية بدليل أنه كان شحاذاً؟!! والمفارقة الثالثة : أن نظرياته التربوية تلك التي فشل في تنزيلها في حياته الخاصة ، ما زالت ترن في وعي التربويين المعاصرين ! الحكومة التي تخدم نفسها تحمي الفنان أو المثقف من توافه الحياة اليومية كالطعام والسكن والعلاج والتعليم . ولماذا يظل المبدع معاقاً في جيبه ؟ لأنه مخلوق بشري مفتتن بقضية أعماقه ، وحقائق الأعماق تختلف عن حقائق الأسواق. والإنسان أحد أمرين ولا سيما المبدعون منهم : إما أن يستغرقوا في متعة الوجدان والخيال أو ينجحوا في الأسواق. امتلاك الأمرين مستحيل وقديماً قالوا (اذا اخضر جانب جف جانب أخر) متطلبات المعاش اليومي تتطلب خطة وصبراً،والفنان مهندس(أعماق)خبير هناك! ولكنه فاشل بين أزقة الحياة اليومية .إنسان(مزاج)أكثر من صاحب عزم.. والأزمة تتولد هنا. إذا أرادت المجتمعات أن تستثمر طاقاتهم الموقوفة في مطاردة(الجمال) يجب أن تتعامل معهم كما هم! إذن من كانت حياته بلا خطة يعيش(بالطواريء) دعماً من هنا، ودعماً من هناك.. ولا يجب أن يترك هذا الأمر للتجار فهذا أمر لا يدركه هؤلاء بطبيعة مهنتهم . يجب أن تقوم به الحكومات والبيوتات المالية المحترمة ومعلوم أن في ميزانيات الشركات الكبيرة في أوربا حق معلوم للمبدعين خصماً على ميزانيات العلاقات العامة، لهذا، إستطاعوا أن يخلقوا توازناً ما يقي المجتمع شرور هذه الطاقات الجبارة. أما السبب الثاني لقضية الإعاقة الاقتصادية للفنان هو أن بضاعته دائماً (بائرة) في الأسواق لأنها لا تسجل أولوية ملحة للمشتريين ، نتائجها لا تأتي إلا متأخرة! الذي يحدث عندنا أن الدولة مدركة لهذه المفاهيم ولكنها لا تملك حلولاً ، لأنها فاشلة المؤسسات ضعيفة الموارد بسبب أن المواطن نفسه غير مدرك لأهمية الثقافة في حياته :- ثانياً: أن الدولة لا تملك آليات شفافة ، فالموظف القائم بأمر توزيع الحقوق أكثر حاجة لهذه الأموال من المبدع نفسه، وفي غياب التربية الشفافة والمراقبة تصبح مراكز المبدعين فرصة للمأكلة. فالنتيجة هي أن المبدع يأخذ الفتات بكثير من المن والأذى. سمعت موظفاً يقول لهم أن هذه الأموال أموال شحاذة، وقد تعمد إذاعة هذا الكلام لتعميق الجرح النفسي. والمفارقة أن النعمة باد عليه من هذه الأموال نفسها !! والمفارقة الأخرى أن صفوف هؤلاء(المبدعين) تتهافت على(الكشف) دون إكتراث لمثل هذه الإساءات وربما أدركوا أن المطلوب من كلام هذا الموظف أو الموظفة أن يذهبوا عن هذا الدعم لتذهب في جيوب الموظفين، فيقبل أكثرهم هذه(اللقمة ) المسمومة مكسور الخاطر، رغم أنها لا تشبع جائعاً ولا تكسو عارياً . وإذا رأيته متأبطاً هذه الجنيهات الهزيلة تدرك تماماً معنى حكمة قديمة حفظناها من التراث الشعبي تقول(لا عورة حفظناها ولا مالاً كسبناه). هكذا تبقى نتائج الرعاية للمبدعين أسوء بكثير من معناة الفاقة نفسها. ولكن أليست هنالك قوانين تحمي المبدعين ؟ نعم أعرف هناك قانوناً صدر سنة 1999م وككل القوانين التي تحمي حقوق المواطن تم تفجيرها من الداخل . من العوائق التي وضعوها مثلاً ، شروط استلام البطاقة والإعتراف بالمبدع نفسه، وإجتماع (لجنة) لم نسمع أنها إجتمعت منذ سنوات. ومن يرفع عقيرته بالإحتجاج تنتزع منه الحقوق القانونية بمثل هذه الحجج الناعمة مركز اللواء المشرف طبقاً للهيكلية التي تحكم مؤسسات الدولة ، هذا الصندوق الذي يديره السيد اللواء عبد الجليل المشرف هو الجهة الوحيدة التي يجب أن تتصدى لهذه المهمة المهولة، ولكن رغم كل ذلك استمعت إليه وهو يشكو مر الشكوى أن تعدد المراكز في الدولة، يضعف من ميزانية الصندوق. لو جمعوا له هذه الأموال التي توزع للمبدعين هناك لاستطاع أن يعالج هذا الكم الهائل من الكشوفات التي تنتظره ليفعل شيئاً، ولا يجب أن ننتظر وزارة المالية . نصدق تماماً ما يقوله أن الذي يجمعه من هنا و هناك أقل بكثير مما هو مطلوب. وجدته يسخر ممن يهاجمونه في الصحافة السودانية ويقول أن الذين يدعمهم يأخذون ويصمتون، ولم يتعود أن يكشف عن اسم مستفيد! أما الذين لم يجدوا حظاً من هذا(الكشف) هم أعلى الناس أصواتاً ، معلوم أن الفجوة واسعة بين الضرورة والواقع ، ومن يتحمل المسؤولية هنا لابد أن يدفع ثمن(وش القباحة) ولكن بقاء(صندوق رعاية المبدعين)تحت هذا الشعار يغطي عورة دولة فاشلة لابد من فضحها دوماً حتي ينعدل الحال!! ما أقبح هذا(الابداع) الذي يخرج من رحم مثقف متسول،وكيف يكون الانسان في الأصل مبدعاً وهو على هذا الحال ؟؟!!.