صحوت ذلك الصباح فرحاً.. فقد نمت وبعض الحمى تنتاشني.. توجست كثيراً.. فصديقي «المرض» أصبح يزورني كثيراً.. كنت أتوقع صباحاً ساخناً بالحمى ووجع الرأس.. لكن صحوت وقد تلاشت الحمى إلا قليلاً.. سرحت مع بضع أحداث.. تذكرت فجأة أن قال لي الأخ عبد الوهاب هلاوي بلا مناسبة وكانت قد مرت على وفاة معلمنا «علي المك» سنوات.. تعرف يا سعد الليلة الصباح في صلاة الصبح تذكرت «علي المك» ودعوت له كثيراً.. وكان الصبح قد أوشك على الرحيل ولكن صباح الشتاء طويل.. تذكرت ذلك.. ودعوت لعلي المك بالرحمة والمغفرة.. لكن بعد ذلك لم يكن في «شاشة» ذاكرتي سوى علي المك.. أتذكر أول لقاء لي به.. وهو يحتفي بقصتي باب السنط التي نشرتها في مجلة الدوحة وكان هو مدير مكتبها في الخرطوم.. قال لي: تعرف دي رواية عديل.. أعملها رواية.. وتداعت الذكريات.. كنت القاه في ردهات الإذاعة.. واتذكر ضحكاته المجلجلة يضخمها صدى صالة الإذاعة.. فأعرف أن الحديث عن «أبو داؤود» يحكي بعض طرائفه التي أصبحت كالأغاني لا نمل تردادها.. فعدوت نحو صوت الضحكات.. مكتب صلاح الدين الفاضل.. علي المك يجلس وسط مجموعة وصلاح منشغل بأمور الإذاعة يدخل ويخرج.. جلست بجانبه.. قلت له: أحكي لي ما جعلكم تضحكون هي من طرف أبو داؤود مش كده.. فقال لي: وهو في غيره.. تذكرت كل ذلك وهرعت إلى مكتبتي حتى عثرت على كتابه «أعمال علي المك» طبعة أنيقة من منشورات عبدالكريم ميرغني.. إنه علي المك المولود في 1937 والراحل عن دنيانا في عام 1992.. نصف قرن من الزمان وبضع سنوات عاشها معلمنا هذا فملأها إبداعاً.. أتصفح المجموعة.. أقلب.. بدأت بقصة لذبابة لأرى تأثيرها عليّ.. فقد كتبت قبل عقدين من الزمن قصة اسمها جسد إبداعي ذبابة خضراء لحوح.. قارنت بين الفكرتين.. وجدت الفرق شاسعاً لكن البطل واحد هو الذبابة.. ثم انتقلت إلى أشعاره الحاضرة فيها أم درمان.. عباراتها الشعبية.. ناسها وزقاقاتها.. وجدت قصيدته المنثورة الصباح رباح وأنا معجب بهذه العبارة أسميت بها «عمودي» الثاني الذي كنت أكتبه في «الرأي العام» ثم الآن «آخر لحظة».. وكتبت أغنية «صباحك رباح» التي تغنيها بمحبة آمال النور ثم غناها ملحنها أبوذر عبدالباقي والتي تقول كلماتها: صباحك رباح وليلك صباح جمالك متاح وخيرك مباح وتب ما بتهزك عواتي الرياح شتاك شايفو دافي وصيفك عوافي ربيعك يوافي من أعماق نفوسنا بجمالو الخرافي في كل حتة فيك ألاقيك أوافي جنان غيرك إنت بشوفن فيافي وأعشق سماك مغيم وصافي قرأت قصيدة «علي المك» مرة والثانية هي قصيدة جميلة.. ولكنها قصيرة أو أقصوصة في ذات الوقت.. ما أعذبها يقول فيها: الصباح رباح.. صباحات الله بي خيرن سمعتها تقول.. العزيزة جارتنا.. جارتنا الصابرة.. الفقيرة جارتنا.. كانت تحدث ابنها الصغير.. الجالس على حجرها.. يبكي جائعاً.. وقد اشتم في هواء الحي رائحة شواء.. ورائحة لحم تعذبه النيران.. فغاصت بطنه في ظهره من جوع.. ومن الجوع ما يؤلم حقاً.. أصبر.. صباحات الله بي خيرن ولم يُبْد اقتناعاً.. صفعته وقد يسكت المرء حين يصفع.. وقد يدير خده الأيسر.. ويبكي حتى شبع دمعاً.. ونام.. الصباح رباح.. الصباح رباح.. الصباح رباح..