القائد المهدوي الفذ، امير الامراء وفاتح الخرطوم عبد الرحمن النجومي الذي قاد جيش الثورة المهدية لفتح مصر لقى ربه شهيداً في موقعة توشكي؟ والذي أثار مصيره ومصير جيشه الكثير من القيل والقال حول الدوافع التى جهزت لحملته، وما زال هذا الجدل البيزنطي يدور حتى الآن وكأنه جدل البيضة والدجاجة في بيزنطة والعدو على ابوابها، علماً بأن موقعة توشكي كان قد سبقها جدل كبير وعقيم فيما كان جيش العدو يقف على مشارف بوابة السودان الشمالية! ومن هذا الجدل ان أذهان الكثيرين من المؤرخين والمتأرخين ظل يتبادر لهم ان الخليفة عبد الله لم يكن جاداً في امر فتح مصر، وان ما قام به لا يتعدى ان يكون هوساً دينياً من جانب، ومؤامرة للقضاء على النجومي و((أهل البحر)) من جانب اخر، وقد يرجع الأمر الى النهاية المؤلمة والهزيمة الساحقة لحملة النجومي في توشكي في اغسطس عام 1889م، وقد سار في هذا المسار كل المؤرخين (هولت) و(نعوم شقير)، كما كتب قائد الجيش الذي كان يتهيأ للغزو السردار غرانفيل للنجومي خطاباً قال فيه ((.. وأنا عالم بسوء حالك انت وعالم انك فريسة لغيرة ذلك الخليفة الكذاب الذي جعل ابن عمه يونس عاملاً في مكانك وجعلك تحت طاعته وأرسلك انت والاعراب الذين يخشى امرهم بحجة فتح مصر وهو انما يريد هلاككم، فانه يعلم ان الذي ارسلكم اليه لمستحيل عليكم..)). وبعض المؤرخين يرددون بأن ماساة توشكي لا يمكن ان تحدث الا عن قصد، ويقدمون تفسيرات لطبيعة العلاقة التى تربط ما بين الخليفة عبد الله والنجومي، وخلطهم بين هذه العلاقة وبين العلاقة التى تربط بين الخليفة عبد الله والاشراف وما يتصل بهم من القبائل النيلية الاخرى، ونظرتهم الى النجومي باعتبار انه قائد جعلي من ابرز قواد (أهل البحر) وتابع لراية الخليفة شريف الذي كان في نزاع دائم مع الخليفة، وقد كان الاخير يسعى لكسر شوكته. وأما الذين يناهضون نظرية المؤامرة هذه، فهم ينطلقون من نقطتين، فالاولى هي طبيعة الخليفة عبد الله الدينية، فهو من اوائل الذين آمنوا بدعوة المهدي، وأحب الاخير واخلص له من كل قلبه، ووجد فيه الشخصية المثالية التى شغلت فكره كثيراً منذ يفاعته، فحرص على التمسك بشعائر المهدية والعمل على تنفيذها بحذافيرها كما وردت في اقوال المهدي ومنشوراته ورسائله، خاصة فيما يتعلق بأمر الجهاد والفتوحات، وتمشياً مع هذا المفهوم اتخذ الخليفة عبد الله خطواته العملية لتحقيق ذلك فأمر ببعث النجومي للجبهة الشمالية ومواصلته الزحف حتى فتح مصر. والنقطة الثانية هى طبيعة العلاقة بين الخليفة والنجومي، فهى قائمة على المحبة والمودة، كانا يتبادلان الهدايا، ومعلوم ان للجنومي في عنقه بيعة للخليفة في حياة المهدي وبعد رحيله، ويلاحظ ان وثائق المهدية نفسها تفسر طبيعة تلك العلاقة، وقد جاء في خطاب ارسله الخليفة للنجومي وهو في الجبهة الشمالية:(( فاعلمك حبيبي ومحل ودي انك في كل حال منا على بال ومن الكرام علينا وأحب الاحباب الينا ومن عهد فراقك لنا ما يزال رضانا مشيعاً ببركة عفونا عنك ودعانا، وفي كل يوم يزداد الرضا عنك، ويتضاعف الثناء عليك نظراً لما هو معهود لنا فيك من حسن الصدق مع الله وجميل القيام معنا في الله)) وفي خطاب له آخر يقول للنجومي :((فنعرفك حبيبي انك مع الكرام علينا ومن الاعوان الصادقين الذين نعول عليهم في مهمات الامور الدينية))، وجاء في خطاب له يخاطب فيه كافة العمال الذين بمعية النجومي موضحاً لهم مكانة النجومي عنده وحاثاً لهم على التحزب معه والعمل لنصرة الدين جاء فيها:((..وان توازروا الحبيب عبد الرحمن النجومي الموازرة التامة وتمتثلوا لامره ونهيه في جميع ما يشير به عليكم في مصالح الدين واعلموا ان الحبيب المذكور هو عضدي وراحة بالي فقوموا بواجب طاعته كما ينبغي)) وقس على ذلك في رسائله الاخرى للنجومي. كما يرى المناهضون لنظرية المؤامرة ان الخليفة ان كان يهدف للقضاء على النجومي والتخلص منه فقد كانت له وسائله الفعالة التى ثبت تاريخياً انه استعملها بنجاح تام ضد اعدائه السياسيين امثال محمد خالد زقل والخليفة شريف نفسه وغيرهما من قواد المهدية الذين كان يشك في ولائهم له. وعلى الرغم من هذه المرافعة يلاحظ ان الرأى الأكثر شيوعاً هو الرأى القائل بأن الخليفة كان يهدف الى الخلاص من النجومي والقضاء عليه وعلى اتباعه، ويستشهد اهل هذا الرأى بما كتبه نعوم شقير قائلاً :(( حكى لي من اثق بصدقه ان الخليفة التفت الى النجومي في بعض جلساته في الجامع وقال له انت يا ولد النجومي ماك هين ولكن هوين، اى اسمك كبير وفضلك صغير))، ويدعم هذه الرواية الشيخ بابكر بدري في تاريخ حياته بأن الخليفة عبد الله وبخ النجومي عند حضوره لزيارته في ام درمان وقال له :((.. انت يا ولد النجومي هوين اخوانك ، الذين معك كلهم استشهدوا فأنت الى متى تحيا خائفاً من الموت) ). وأياً كان الامر فإن اخفاق حملة الشمال يرده المؤرخون الى خطأ في حسابات الخليفة وقواده لجهلهم بما كان يدور في العالم الخارجي، بالاضافة الى سوء الإعداد وخلافات قادة الحملة، ويبقى الجدل حول الحقيقة في طوايا الغيب.