ما من أحد وثق لرحلة التيه في صحاري الشمال التي خاضها جيش الأمير عبد الرحمن النجومي كما فعل بابكر بدري، فالرجل كما قلنا إنساق وراء عقيدته الجهادية في تلك المغامرة اليائسة شأنه شأن المجاهدين الأنصار هو وكامل أسرته من أم وأخوات وأعمام وأخوال وحتى الأطفال. ذاقوا مرارة الجوع إذ كانوا يقتاتون حتى نوى البلح، وأضناهم الظمأ والعطش في ذاك الحر اللافح والنيل على مقربة منهم، لكن دونهم عنه بوارج الإنجليز التي تمطرهم بوابل الرصاص... وفوق ذاك ذاق الشيخ فقده لأسرته من نساء وأطفال كادوا أن يتعرضوا للسبي إلى جانب ذل الأسر والسجن، إذ كان الشيخ وهو في الأسر في صعيد مصر يجبر وهو سجين على حمل (جرادل) العذرة كما أسماها وهي الفضلات الآدمية! ونحن نستعرض بعض الهوامش في رحلة الكرب والبلاء هذه لابد أن نتوقف أمام شخصية الأمير عبد الرحمن النجومي، ذاك الرجل الباسل المقدام والذي حمل نفسه على طاعة عقيدته الجهادية في مرحلتي الثورة والدولة رغم ما لحق به من أذى نفسي من قبل السلطة المركزية في أمدرمان ممثلة في رأس الدولة.. الخليفة عبد الله خليفة الإمام المهدي. فقد تأذت نفس ود النجومي دون أن يبدي سخطاً أو تبرماً على التهميش الذي أصابه..هذا التهميش رصده الشيخ بابكر بدري والذي لم يخفِ تعاطفه مع ود النجومي حينما عين الخليفة الأمير/ مساعد قيدوم أميراً على أنصار الغرب وبشكل مستقل عن إمرة عبد الرحمن النجومي والذي عدَّه شيخنا من أوائل التغييرات السياسية في المهدية بعد وفاة المهدي. في هذا الشأن كتب الشيخ بابكر بدري يقول (طلب خليفة المهدي ونحن في صرص من ود النجومي أن يحضر له في أمدرمان حيث يقال إن الخليفة وبخه بقوله: (إنت يا ود النجومي (هوين)... إخوانك الذين معك كلهم إستشهدوا وإنت إلى متى تحيا خائفاً من الموت؟).. بعد ذلك أرسل الخليفة يونس الدكيم رئيساً على قائدي الحملة ود النجومي ومساعد قيدوم). ويمضي الشيخ في حديثه عن محنة وبسالة الأمير ود النجومي إذ جاءه كتاب من قائد الجيش الإنجليزي يقول له ما معناه (إن الخليفة عبد الله عزلك وولى مكانك إبن عمه يونس الدكيم، وأرسلك بلا ذخيرة أو مؤونة وغرضه يرتاح منك ومن جيشك لأنكم قوة يخشى بأسها، فإني أنصح لك أن تسلم فستجد منا ما يسرك.) فكتب إليه ود النجومي قائلاً:- (أنا بايعت المهدي وخليفته على الجهاد وسأستمر مجاهداً فإن قتلناكم نجد عندكم ما أغريتنا به في كتابك وإن قتلتمونا لا تجدوا عندنا إلا جبة متروزة وحربة مركوزة). أُسر الشيخ بابكر بدري في آخر يوم من يوليو 1889م، وفي عصر يوم السبت 3 أغسطس من نفس العام هُزم جيش ود النجومي واستشهد قائده البطل ويروي الشيخ أنهم في الأسر جيء لهم بجنازة الأمير ليتعرفوا عليها .. كان الأمير لابساً جبته والغبار بلحيته الجميلة.. كان يبدو وكأنه رجع من (العرضة) دون أن تظهر عليه كآبة الموت!