فرغنا في الأسبوع الفائت من المفاضلة، والمقارنة، بين النظامين الرئاسي والبرلماني، وخلصنا إلى أن النظام الرئاسي المعدل، أنسب لظروف السودان وتركيبته السياسية، شريطة إحاطته بضوابط وكوابح، تقيم التوازن بين أجهزة الحكم، وتضمن إلتزام السلطات العامة، بما فيها مؤسسة الرئاسة بقواعد اللعبة الديمقراطية، ومبدأ المشروعية، ومقتضيات دولة القانون. üوحيث أننا ما برحنا نتجول في الردهات بحثاً عن نظام الحكم الملائم لسودان الألفية الثانية، وعن الشكل الاداري الأقوم للجمهورية الثانية، يغدو طبيعياً أن نصوب النظر إلى خيار اللامركزية الفدرالية، أو الحكم الاتحادي، كأنجع صيغ توزيع السلطة جغرافياً بين المركز والأطراف. üولقد قرّ في الأذهان، سواء من زاوية الفقه الدستوري، أو ناحية الفكر السياسي، أن الدول تنقسم إما الى دول بسيطة موحدة، أو دول مركبة، وفي النوع الأخير وهو الذي يهمنا هنا، تتوزع السلطة بين مستويين، قومي في المركز وإقليمي أو ولائي في الأطراف، ويمارس كل واحد منهما إختصاصات تشريعية، وتنفيذية، وتخطيطية في مجالات بعينها، خصه بها الدستور، أما على سبيل الحصر، أو اشتراكاً مع المستوى الآخر. üورغم أن عباءة (اللامركزية) تسع أنماطا شتى، وتضم قوالب متعددة، تتفاوت في درجة تركيزها أو تخويلها للسلطات، إلا أن الصيغة الاتحادية أو الفدرالية تبقى الأنموذج الأكثر تعبيراً عن فلسفة أقتسام السلطة، وتوسيع قاعدة المشاركة. üومن السمات البارزة للنظام الإتحادي، أن مستويات الحكم فيه، قومية كانت أم اقليمية، تستمد صلاحياتها، من منهل واحد هو الدستور، مما يجعل العلاقة بينها علاقة ندية واصطفاف أفقي، لا رأسي تتنزل السلطات فيه من أعلى الى أسفل، ويمارس فيه مستوى حكم هيمنة ووصاية على ما دونه من مستويات، الأمر الذي يهزم الفكرة الجوهرية للامركزية ويحيلها الى مركزية قابضة تتستر خلف حجاب خادع. üولما كانت آفة التغول على اختصاصات الآخر، أو طغيان مستوى حكم على غيره، من أكبر مهددات التوزيع العادل للثروة والسلطة في الأنظمة الاتحادية، ومصدر التضارب والتنازع، فقد حرص المشرّع الدستوري في تلك الأنظمة على تأسيس آليات لفض الاشتباك، ولضمان التنسيق والتعايش والتعاون بين مكونات الاتحاد، ومن بين هذه الآليات في السودان المحكمة الدستورية، وديوان الحكم الاتحادي (سابقا) المجلس الأعلى للحكم اللامركزي حالياً ومجلس الولايات. üوكما هو معلوم لذوي الاختصاص والاهتمام، فإن النظام الفدرالي قد تم تبنيه في السودان، وللمرة الأولى في السنة الثالثة من عهد الانقاذ الوطني، بمقتضى المرسوم الدستوري الرابع لسنة 1991م ثم جرى تطويره عبر مراسيم دستورية لاحقة، كالمرسوم الدستوري العاشر وحتى الرابع عشر عام 1997م، بيد أن الحكم الاتحادي بلغ أوج قمته بعد اصدار دستور السودان لسنة 1998م، والذي كان وبحق أول دستور سوداني يحسم وبكل وضوح قضية الشكل الإداري للدولة السودانية ويتضمن فصولاً وأحكاماً مفصلة عُنيت برسم الإطار القانوني والهيكلي للنظام الفدرالي، وتحديد أجهزته ومؤسساته وعلاقاته، فضلاً عن آليات التنسيق، وجداول تقسيم السلطة والثروة بين المستوى القومي والولائي والمحلي. *وعقب إبرام اتفاقية السلام الشامل وتقنينها في دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م، وهو الدستورالحالي، حدث تحول دراماتيكي في محور نظام الحكم، إذ لم ترد في الدستور ولا مرة واحدة أية إشارة للحكم الإتحادي أو الفدرالي، لكن النصوص ذات العلاقة ظلت تتحدث عن (اللامركزية) وعن (الحكم اللامركزي)، وكما هو معلوم بالضرورة فإن اللامركزية يمكن أن تكون حتى في غير الدول الفدرالية بل وفي ظل الدولة الموحدة Unitary State. üوفي إعتقادي أن مفاوضي الحركة الشعبية كانوا وهم يفاوضون الوفد الحكومي في هذا الشأن، يضعون نصب أعينهم وضعية الجنوب كإقليم يضم عشر ولايات، وتندرج فيه أربعة مستويات حكم، هي المستوى القومي والإقليمي والولائي والمحلي، بينما في الشمال ثلاثة مستويات فقط، هي مستويات الحكم الاتحادي المعروفة، دون مستوى اقليمي له حكومته وسلطته التشريعية وقضاؤه المستقل عن المركز، وهذا التباين الكبير بين شطري البلاد- قبل الإنفصال- دفع ببعض علماء القانون الدستوري إلى القول بأن تكييف الجنوب في ظل الإتفاقية كان أقرب للكنفدرالية منه للفدرالية. üنواصل إن شاء الله في الأسبوع القادم.