تتنوع لنا الفواجع وتواجهنا صروف الدهر وتتلاعب بنا الأقدار فتنتزعنا من سبات الغفلة وغواية الدنيا وزيفها، وتكون الصدمات مريرة حين ينزع الموت خليلاً وفياً، أو أبوين رحيمين، أو فلذات أكباد هم زينة الحياة وطمأنينتها، أو ظاهراً بين الناس مثل الظاهر الذي رحل وما غاب في عمره عن وجدانهم يسير بينهم فواحاً بقيم الإنسانية والحنو، وحيثما مر كان له أثر وحضور يقتفي سيرة العظماء من البشر الذين غرتهم وجوهرة تاجهم سيد المرسلين والكواكب الأزاهر من بعده، وسيرة ورثتهم من العلماء والصالحين، ومن سطروا الخلود لسيرتهم حين لم يغب عنهم الهدف الأسمى لرحلة الحياة القصيرة، فأحسنوا ترويض الدنيا للفوز بدار الخلود، فأمضوا حياتهم في الاستقامة لأنفسهم والعمل لما يصلح الناس في دينهم ودنياهم رحل الظاهر خليل حمودة في الصباح الباكر، وجاء رحيله متسقاً مع سيرته في الدنيا كما الشهب حين تنطفئ تتوهج في ذاتها، وتجعل كل حي يسترق النظر أو يصيخ السمع، أو يبهت من فجاءة التلاشي، كان كل من عرفه من غير أسرته أو ربعة حضوراً معهم من زملاء الدراسة في مراحلها المختلفة، ورفقاء الدرب أخوة العقيدة والالتزام وزملاء المرافق التي عمل بها جميعهم، إن كل منهم يحس بأنه الأقرب إليه فهو شخص ما جلست إليه إلا وامتلأت به. في النصف الأول من الثمانينيات وأزمة الريف البعيد تستفحل، والجفاف والتصحر يتمدد حزاماً من البؤس والفاقة، يحيط بغرب السودان، والبدائية في سبل كسب العيش تزيد من معاناة الناس، وجاءت الفكرة المووءدة لاحقاً بتأسيس بنك الغرب الإسلامي، وكان المرحوم الظاهر من أوائل من لبوا النداء وتصدوا للمسؤولية، وكان متجرداً قديساً ناسكاً ومتيماً، بذل جهد فكره وبدنه مصوباً همته نحو الغايات النبيلة، وانجاح المشروع ليكون رائداً، كنا معه والى جانبه استحياءاً وتشبهاً وسعياً لنصير منه أو بعضاً من خلقه ومنهجه أصبح الظاهر في البنك مدرسة ومنهجاً في اداء الواجب، فالعمل لديه عبادة وتقرب لله والأمانة والصدق ونكران الذات حاضرة في كل خطوة، والانتصار للحق بقوة الحق سيفاً ما فارق يمينه يذود به عن حياض الضعفاء، ويلوح به في وجه المتجاوز لحدود المساواة، فكان تفكيره ومبادآته المبكرة لصالح الفئات البسيطة أصحاب المصلحة الحقيقية في البنك، انتجت قسماً للمشروعات الصغيرة في قطاع الاستثمار، يوم كان المال والتمويل دولة بين الاثرياء والوجهاء، ورمي سهماً في فجاج غرب السودان متحدياً صلف احتكار التمويل الائتماني طويل الأمد في العاصمة تحت نظر الإدارات العليا للبنوك فإدارة المشروعات التي يتولي فيها مهام المدير قامت بتمويل وتنفيذ أول معمل للفحوصات الطبية للمتخصصين في المجال بمدينة الفاشر، الذي مثل أعظم إسهام للقطاع الخاص من الشباب المتعلم في منطقة تفتقد مثل هذه الخدمات الضرورية للإنسان، وفي عهده بالمشروعات وانحيازه للمحتاجين تم تنفيذ مشروع تحسين الأغنام باستيراد سلالات السانين الهولندية، والتجنبيرج الالمانية، وتهجين الأغنام النوبية لمصلحة الفقراء، وتوفير الغذاء ورفع دخل الأسر الفقيرة، وكان وراء إنشاء المحافظ التمويلية للمنتجات الزراعية والحبوب الزيتية وصادر الماشية انحيازا للمنتجين وتخليصهم من الاستغلال وتركيزاً للأسعار لمزيد من الإنتاج إضافة للدخل القومي،تلك أمثلة لمآثر الفقيد.. شاءت الإرادة الإلهية أن أكون واحداً من شهودها وشاهد لتفرده في الإدارة لمرؤوسيه، إذ كنت ولسبع سنوات واحد منهم، فهو لم يكن باللين الذي يعصر، ولا الجاف الذي يكسر، كان إنساناً متشبعاً بقيم الإنسانية قوياً مصلحاً إن فارق أحد مرؤوسيه جادة الطريق، مقرظاً مجزياً إن أبدع في أدائه منافحاً صنديداً لانتزاع حقوقهم إن تعرضت للضيم، وكانت الإدارة العليا للبنك ترسل لإدارته الموظفين الذين اخطأوا التقدير في عملهم بالفروع أو الإدارات الأخرى، وفي إحدى جلسات المراجعة معه أخطرته بأن الموظف الذي تم نقله للإدارة من أحد الفروع محبط ومكتئب وأداؤه غير مرضٍ، وطلبت نقله من القسم الذي اترأسه الى قسم الدراسات، واردفت أن المشكلة تكمن بإحساس الذين يتم نقلهم للإدارة، إنهم قذفوا الى مؤسسة عقابية وتأديبية وطلب أن أصبر عليه قليلاً، فأصبح يجلسه في مكتبه لساعات ليراجع معه بعض الملفات، ويستمع لآرائه، ودب النشاط في عروق الموظف، وتدرج حتى الصف الأول من قيادات البنك مشهود له بالعطاء والأمانة، كانت إنسانيته تتجاوز العمل ويهتم بالمشاكل الشخصية، التي تواجه مرؤوسيه له حساسية بأوضاعهم دون مراقبة أو هتك خصوصيتهم، فقد لاحظ أن أحد العمال السعاة لا يتناول وجبة الفطور لأيام وفي يوم انفجرت الأحزان في دواخله، مثل اليوم الذي نادى ثلاثتنا وهو رابعنا الى مكتبه ليأخذ موافقتنا على تخصيص فطور يومي لكل العمال بالطابق الذي يضم قطاع الاستثمار بإدارتيه ويتم سداد القيمة بيننا الأربعة ووجه عامل البوفيه بفتح صفحة بعنوان فطور العمال لقد أسر القلوب وخلب العقول، وكان مثالاً وقدوة تعلق به من عمل معه أو سمع به، فقد كان البدر الذي لا تخطئه العين والعطر الذى يغمر الأنفاس دون استئذان، والظليم الذي يرمح جناحيه ليستظل به الناس من هجير الشمس، فلم تنقطع المودة والتلاقي بينه وبين رؤسائه ومرؤوسه بعد تركه للعمل وحتى رحيله الذي أدمى عيون الذين لم يعاصروا فترة عمله بالبنك قبل زملائه ومعاصريه.. لله الأمر من قبل ومن بعد