رأي : عبد السلام كامل عبد السلام : عندما كنا لا نزال في مرحلة الطلب، درسنا في المدارس الثانوية ما يسمى أبواب الأفعال والميزان الصرفي للأفعال المجردة.. نصَرَ ينْصُر..ضرَب يضرِب.. فتَح يفتَح .. تعب يتعب.. حسِب يحسِب..كرُم يكرُم..دحرج يدحرج .. وجيء لنا بأمثلة من هذه الأبواب ، وفسر أنه كيف ربما يكون للفعل الواحد بابان اثنان كلاهما صحيح بحسب ما جاءت به شواهد القرءان الكريم والشعر ..ثم شرح لنا ما يسمى الميزان الصرفي فكلمة متحدِّث ميزانها متفعِّل ،وكلمة شاعر ميزانها فاعِل وكلمة يتساءَل ميزانها يتفاعَل ، وهكذا.. وكان هذا من اليسير علينا فهمه وإن استغلق على بعضنا.كنت أشعر بكثير من الزهو وأنا أكتب : كلمة (مُختَار) تكون مرةَ اسم فاعل( مُخْتَيِِر) ومرة أخرى اسم مفعول(مُخْتَيََر) ، أو أن كلمة (مَكانة) يكون ميزانها على وزن مَفْعَلَة أوعلى وزن فَعَالَة ، وأعلمنا أستاذ مادة الصرف أن القياس بالشواهد الشعرية والنظر إلى قواميس اللغة هو مناط البحث السليم عن الجذر الأصلي للكلمة ، وجاء من بعد ذلك الحديث عن المشتقات وأنواعها .. اسم الفاعل واسم المفعول والمصدر الميمي واسم المرة واسم الهيئة واسم المكان واسم الزمان .. كان كل هذا يسبب لي نشوة أشعر بها وأنا أقوم بحلّ الواجب المدرسي، ولكن ما كان يشغلني كثيرا هو أفعال المدح والذم.. نعم ويئس وحبذا ولا حبذا ، وكذلك كان وأخواتها:لماذا تسمى أفعالا ناقصة ، وهل هذا يعني أن تكون هناك أفعال تامة !! أما عن نعم وبئس ،فتجدني في حيرة في أيِّ الأبواب يمكن أن تنضوي؟ لقد كان مما لحظت أنه ليس لها فعل مضارع، كبعض الأفعال الماضية التي لا تجد لها مضارعا، وأشهرها هو بالطبع الفعل (ليس)، بل ولا فعل أمر!وقالوا إنها أفعال غير متصرفة ..وتقول الكتب إن (نعم) يكون لإنشاء المدح ،فتقول نعم القائد خالد ونعم قائدا خالد وهو مبالغة في المدح معناه لو فضل القواد قائدا لفضلهم خالد ، وقد تلحقه ما فيكتفي بها عن صلته إذا كانت ثمّة قرينة فتقول أصلحته إصلاحا نِعِمّا بكسر العين ، ووردت الكلمة في القرءان الكريم:إن تبدوا الصدقات فنِعِمَّا هي (البقرة)أي نعم ما تبدونه ، وفاعل نعم مستتر فيه ،ويقال ( إن فعلت فبِها ونِعْمَت )أي نعمت الفِعْلَة .أما (بئس ) فتغاير نعم في المعنى فهي متحولة عن (بَئِسَ) وتأتي للذم وحالها كحال نعم في الاستخدام لا تختلف عنها في شيء.. ولكن لا يزال السؤال قائما : ما هو باب هذين الفعلين من الأبواب الستة المذكورة في كتب النحو وبالطبع فهناك أشباه لهما كمثل عسى وليس وحبّذا ولا حبَذا. أما الفعل (كان) فما وجدت أغرب منه في الاستعمال والإعراب.. فهو مرة فعل ماض ناقص ، وهذا هو الأشهر استعمالا ،ومرة ثانية هو فعل تام ويأتي ثالثة زائدة ، أي إن وجودها كعدمه..وأسأل إن كانت زائدة فلم ترد أصلا في الجملة ؟ فصّلت كتب النحو الفعل الناقص وأوجزت في التام ولكن لا تورد شيئا في شأن (كان الزائدة).. ولكن تباغتك أمثلة في الشعر العربي ، فلا تجد تفسيرا نحويا لورود الكلمة على شكلها الذي وردت به، ومنه قول الشاعر الفرزدق في مدح زين العابدين بن الحسين الذي ارتجله ارتجالا عندما أراد الخليفة الأموي أن يحط من قدره عندما رأى الناس يزاحمونه في الطواف ثم هم يفرِّجون المساحة عندما أتى زين العابدين بن الحسين بن علي، فقال : من هذا ؟ وهو يعرفه حق المعرفة فقال الفرزدق على البديهة: هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتََه والبيتُ يعرِفه والحِلُّ والحَرَمُ ويقول فيها ما قال (لا ) قَّطُّ إلا في تشَّهُدِه لولا التشهدُ كانت (لاؤه) نعَمُ هل لاحظ القارئ أن(لاؤُه) مرفوعة وكذلك (نعََمََُ) مرفوعة أيضا ؟ ثم ماذا نقول إذا عدّ النقاد الفرزدق من طبقة الشعراء الذين يستشهد بشعرهم في فصيح الكلام ، مثله كامرئ القيس وطرفة بن العبد والحطيئة ؟وبيت آخر لأبي نواس،في واحدة من أشهر قصائده الخمرية ..لا نسأل عن الجهر فيها بالسوء من القول ولكن نسأل عن الإعراب ! يقول نواس دعْ عنكَ لوْمِي فإنَّ اللوْمَ إغرَاءُ وداوِِني بالتِي كانتْ هيَ الدَّاءُ فكلمة (الداء) جاءت مرفوعة ، وشأنها إذا أعملنا (كانت) فيكون اسمها الضمير (هي) وخبرها (الداء) فمتى كان ذلك كذلك،تكون (الدَّاءَ) منصوبة ، فلا بدّ أن (كان) هذه زائدة..ثم وجدت أمثلة أخرى ل(كان) الزائدة ..كلها شعرية ، والشعر معلوم عنه أنه يجوِّز ما يجُوز في النثر: في لجَّة ٍغمَرَت أباكَ بُحورُها في الجاهليةِ - كانَ - والإسْلامِ وقال الشارح إنه لمّا كان العاطف والمعطوف متلازمين جاز إدخال (كان) بينهما (الجاهلية والإسلام) جِيادُ بنِي بكرٍ تسامَى عَلََى - كان- المُسوَّمةَِ العِرابِِ وهنا قال الشارح إنه لما كان الجار والمجرور متلازمين جاز إدخال (كان ) بينهما.. ولبسْتُ سِرْبالَ الشَّبابِ أزورُها ولنِعمَ كانَ شَبيبةُ المُحتالِ وهنا قال إنه لما كانت (نعم) واسمها متلازمين جاز إدخال (كان) بينهما.. في غُرفِ الجنةِ العُليْا التِي وجبتْ لهُم هُناكَ بِسعْيٍٍ- كان - مَشكُورِِ و(كان) هنا زائدة لأنها دخلت بين لفظين متلازمين هما الصفة والموصوف.. أرأيت كيف يتغير حال (كان) من ناقصة إلى تامة إلى زائدة .. بل هي تكون مكتملة الحروف أو تنقص حرف النون ولا يتغير عملها في رفع اسمها ونصب خبرها ،وإن اشتُرِط أن تكون مجزومة .. يقول تعالى في سورة مريم :قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أكُ بغيّا.. ويقول تعالى في سورة (الأنفال):ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..ويقول في (التوبة): فإن يتوبوا يك خيرا لهم..ويقول في(النحل):إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين.. ويقول في( غافر):وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم..ويقول أيضا في (غافر):فلم يك ينفعهم إيماننا لمَّا آمنوا لما رأوا بأسنا..ونختتم بقوله تعالى في سورة (القيامة):ألم يك نطفة من منيٍّ يمنى.. وبعد..فلا يزال في النفس شيء من نعم وبئس وكان .. تلفزيون السودان أم درمان