أكثر ما يشدني في خرطوم ما بعد العودة من الهجرة " الركشة"؛ جريئة و متجاسرة و باحثة عن طريق، مثل شعبنا فيها الكثير من ملامحه؛ كبيرة النفس و مستصغرة الحجم؛ محدودة المسار و متطلعة نحو مسارات بلا مدى؛ محظور عليها قطع الكباري مثل ما تحظر الحقائق الكبرى عن الشعب. كنت أنتظر محبوبتي الركشة كي أصل لأقرب موقف تاكسي أيام انعدام الغاز؛ جاءت بلونها البني الخفيف و نغم محركها و ابتسامة الشاب الذي يقودها. رفعت يدي فاستجابت، لكنها مضت أمامي خطوات، صرت في مواجهة ظهرها؛ كان خطاً جميلاً, عبارة عن كلمتين داخل مستطيل, تقول العبارة: «عندي نزلة»، ركبت حياني الشاب و حييته.. لفت نظري أنه أريحي للغاية، قال لي من أول كلمة «إن شاء الله تكون رايق و ما متضايق».. كان هذه السجع يجري على فمه بانسياب عفوي ذكرني ما في هذا البلد الجميل.. لا أدري لماذا قفز إلى ذاكرتي «الخزين»، ذلك الرجل الذي كان يتكفل بالدعاية الشعبية لمناشط المجتمع الرياضية و السياسية والاجتماعية لقاء أجر زهيد.. كانت ابتداعاته تضارع لمسات كبار المخرجين، و تذكرت « عمي فرج الله»، كان علماً من أعلام «ميدان الليق» و الساحة الشعبية بالديوم الشرقية في المباريات المحضورة.. و ما أن يعن بالعراقي و السروال الطويل تتقدمه «قفة التسالي» فاكهة مائزة قشرة و لب و طعم ملح خفيف مستطاب. «رايق و ما متضايق» رديت على الشاب الأريحي استفساره.. أحسست أنه قريب لوجداني، و موشح لتخصيبي بجمال شعبنا.. استفسرته عن شعاره المكتوب بخط جميل على ظهرالركشة «عندي نزلة»، ضحك و أخبرني أن فتاة ركبت معه ذات شتاء مضى و عطست و حين التفت نحوها قالت «معليش عندي نزلة».. فحيح الأنوثة سربله ببراكين هرولت في جسده حتى طاف به الجمر.. سار بركشته و الفتاة تواليه عطسة بعد عطسة و هو يحترق بحمى ذلك المرض المعافى!.. قال لي:«بعد نزلت مشيت للخطاط و قلت ليهو أكتب لي: عندي نزلة».. هكذا صار شعار ركشته يحمل ذلك الشجن الجميل عنواناً عزيزاً لا تدرأ المناديل حدته و لا تطببه «الانتي بايوتكس».. صار الفتى في حالة نزلة مستدامة و نقل نثيث العطسة للركشة لتصبح «منزولة» أيضاً.. كان يحكي لي هذه الواقعة و عيناه تشتعل بوميض خافق و يبتسم ابتسامة تنم عن رضى كامل بما فعله تخليداً لهنيهة حُفرت في عمقه و جاءته بهذا «الاقتراح الجمالي». إنه الشعب السوداني وارث خليل فرح، المفتون بعبد العزيز محمد داؤود المشرئب أعناقاً في نوبة حمد النيل، شعب يصلي العشاء و ينتجع للمباهج، و يلسع العشق فؤاده لسع النحل العاسل.. ملأني ذلك الشاب شجناً طمأنني على قوام شعبنا الجمالي و سلامة التقاطه و حسه الشفاف.. دعوت للشاب بأن يديم الله عليه «نزلته» وينزله منازل العاشقين الأوفياء، و أن يجعلني لقّاطاً لمثل هذه المشاهد و يمدني بمدد القلم للتعبير عن ذلك.