في مكتب العقيد د. أبو عبيدة العراقي ابن مدينة كوستي ومعتمدها البار، سعدت بالمتابعة والمشاركة في حوار عميق مع عدد من رموز المدينة حول ذكرياتهم وأيام الزمن الجميل مع التربية السلوكية والوجدانية للتعامل مع أمر النظافة والنظام باعتباره الركيزة الأساسية لصحة البيئة التي تبدأ من داخل المنزل قبل أن «تطلع» الشارع في شكل نفايات وأوساخ ربما تعود الى الداخل في نوعية من الأمراض والأوجاع القاتلة! عشنا أياماً من القلق ونحن نجمع ما تبقى من الأوراق وقشر التسالي وحب اللالوب «الممصوص» لنرمي به خارج أرضية الديوان الترابية بمنزلنا بالجزيرة أبا.. من فرط قلقه وحساسيته لا يستطيع شقيقي الأكبر وأستاذي سليمان عبد الحميد، لا يستطيع النوم إذا لم يشرف ويطمئن على نظافة المكان وأن كل شيء قد عاد الى مكانه المخصص له في الديوان.. وأن الأوراق الممزقة وباقي الطباشير ومخلفات أقلام الرصاص «المبرية» قد خرجت من جدول ذلك اليوم.. إما محروقة في كوشة غشلاق البوليس،أو «مجموعة» في «صفيحة» الطحنية الفارغة في ركن حوش القش «المطفور» والمعطر برائحة النّال بطوله الممشوق! علقة ساخنة وتعنيف «صارم» سيقابلك عصر أو مساء اليوم الذي تغادر فيه إلى المدرسة دون أن تعيد كل شيء إلى مكانه.. من ملاية السرير أو فردة الدمورية أو البطانية.. عليك انتظار «جلدة» حارة إن سجلت درجات متدنية في امتحان طابور النظافة بالمدرسة والذي يبدأ بتقليم الأظافر ولا ينتهي بتفتيش كل الطالب داخلياً وخارجياً! { كانت تلك بداية تربيتنا على أسس وقواعد السلوك «البيئي» السليم.. وهي أسس وقواعد مستمدة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه الذي يرشد الى تعاليم وعادات أخذ بها المختصون في أمر البيئة وأعادوا تصديرها لنا كأحدث ما توصل إليه العلم الحديث من إرشادات ونصائح! { قلت للدكتور أبو عبيدة العراقي إن ما أخذناه من القوات المسلحة والشرطة السودانية من عادات يومية في معسكرات التدريب ومتحركات القتال ومواقع «ارتكازها» التي تطول أو تقصر قد أصبح سلوكاً يومياً في حياتنا ومن ذلك الحرص على نظافة وترتيب مكان العمل والسكن ومتابعة مخلفات إعداد وصناعة واستهلاك الطعام والتخلّص منها بحيث لا تصبح مهدداً صحياً يصعب التعامل مع مضاعفاته! مدهش حقاً أن يحرص الجندي على ترتيب موقعه في الخندق القتالي.. يُجرّف «حرم» مكانه.. ويحرص على «تطويع» المتاح لزراعة الفرح وتجميل المساحة المحدودة بالزهور والأناتيك المصنوعة من «فوارغ» الدانات ونحاس الرصاص بمقاساته المختلفة! {يسهل عليك ملاحظة هذا الفرق إذا كان من بين أحد أفراد أسرتك شخص ينتمي للقوات النظامية وآخر لا ينتمي.. «ملكي»!.. ولتقريب الصورة أكثر، نجد أن اخواتنا وزوجاتنا ومن يقع على عاتقهن ترتيب ونظافة المنازل صباحاً ومساءً يعانين كثيراً -لدرجة الغيظ- من لا مبالاة «ساكني» الصالون من الطلاب في الأسرة الممتدة.. ويبكين أحياناً من قدرتهم على «بعثرة» خطة النظافة والترتيب اليومية ابتداءً من «شد الملايات» وحتى تجميع مستهلكاتهم من أوراق ومجلات واسطوانات ومأكولات ومخلفات «المكيفات» من «سجار».. وعماري إن كانوا من المبتلين بتعاطيها! { لماذا لا نجعل من أمر صحة البيئة سلوكاً يومياً يقوم به كل أفراد الأسرة.. نتعاون لنظافة المرافق المشتركة في المنزل.. نضع كل شيء في مكانه ونلتزم بمراقبة حرم منازلنا وإزالة الحشائش والأوساخ العابرة.. أن نلتزم بمكان ووعاء محدد «لحفظ النفايات» من طعامنا وشرابنا و«كيفنا».. إن تعاونا على هذا المعروف وحرصنا عليه، سنجد ما حولنا نظيفاً.. وستتحول تجربتنا المنزلية الى تقليد سيعم بيوت الجيران.. ومن ثم إلى الحارة.. المربع.. والمحلية لاحقاً. {إنها خواطر تداعت في صباح الأحد الماضي ونحن جلوس في مكتب معتمد كوستي د. العراقي الذي حرص على دعوة مجموعة رمزية من القطاعات السياسية والتنفيذية والفنية والأهلية ليشهدوا بداية تدشين مشروع نظافة مدينة كوستي وهي خطوة تجاوزت واقع الإحباط والانتظار وقطعت شوطاً فعلياً بوصول الآليات الحديثة ليتوالى من بعد «كنفوي» عربات نظافة كوستي التي نالت من قبل جائزة أنظف مدينة في السودان.. لكن عجلات التجويد والتطوير توقفت منذ زمن وصار منظر المدينة المتسخ وأكوام النفايات الملقاة بإهمال في الشوارع الرئيسية والفرعية مشهداً يكسر خاطر كل قاطن وعابر لهذه المدينة التي تستبشر الآن بجلوس ابنها الوفي أبو عبيدة العراقي على كرسي المعتمد ليقود بنفسه أضخم حملة لنظافة محليته انطلاقاً من عاصمتها التاريخية بمنازلها التي بلغت بحسب آخر إحصائية 35 ألف منزل تنتج في اليوم 250 ألف طن نفايات!!