عرف الإنسان حدائق بابل المعلّقة، كواحدة من عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، والتي يُزعم أنها أقيمت في مدينة «بابل» القديمة، التي يجيء موقعها حالياً بالقرب من مدينة «الحلة» بمحافظة بابل العراقية.. وهي حدائق منسوبة للملك «نبوخذ نصر» ويقال إنه أنشأها إرضاءً لزوجته التي تكره العيش في المسطحات، فأنشأ لها قصراً فوق التلال الصناعية وأقام عليه تلك الحدائق التي خلدت في تاريخ العراق والإنسانية.. ولكن هل عرف الإنسان السجون المعلّقة؟ السجون المعلقة التي اخترناها عنواناً لهذه الزاوية، ليست إلا المركبات الطائرة التي تنقلك من مكان إلى آخر، والراكب فيها- طائرة أو مركبة فضائية- سيظل حبيساً داخلها إلى أن تهبط وتلامس عجلاتها أرض المدرج في حال الطائرات، فيتنفس الصعداء، ويحمد الله كثيراً على سلامة الوصول، مثل سجين أطلق سراحه.. وقد كان هذا حال «العبد لله» منذ يوم الأحد الماضي حتى العودة إلى أرض الوطن بعد سبع وعشرين ساعة من مغادرتي مطار محمد الخامس في الدارالبيضاء بالمغرب الشقيق، إذ كانت وجهتي الأولى هي مطار الملك عبد العزيز الدولي في «جدة» بالمملكة العربية السعودية، ومنها إلى الخرطوم بعد استبدال الناقل الجوي من الخطوط الملكية المغربية إلى الخطوط العربية السعودية، ولكن إرادة الله شاءت ألا تجري الأمور كما نشتهي أو نخطط، إذ علمت فور ملامسة عجلات الطائرة مدرج المطار في «جدة»، أن الوقت تأخر للحاق بالطائرة المغادرة إلى «الخرطوم»، لأن مطار الملك عبد العزيز عالم قائم بذاته، فيه قسم خاص للطائرات السعودية وبعض الخطوط العالمية الأخرى، ويسمى بالمطار الجديد، ومطار يعرف باسم المطار القديم.. هذا بالطبع غير مطار الرحلات الداخلية، وغير المطار الملكي. ما يقارب الست ساعات من الطيران المتواصل بين «الدارالبيضاء» و «جدة».. ثم يتبخّر حلم الوصول إلى أرض الوطن، ليواجهني انتظار جديد داخل صالة الترانسيت أو الركاب العابرين، يستمر لمدة أربع وعشرين ساعة أخرى، وما كان بمقدوري أن اتحمل ذلك، إذ كنت قد غادرت «الدارالبيضاء» عند السادسة مساء الأحد بتوقيت المغرب لأصل فجر الاثنين عند الرابعة صباحاً بتوقيت مكةالمكرمة. تلفت يمنة ويسرة، وسألت عن الجهة التي يمكن أن أرجع لها لحل هذه المشكلة، فدلّني (أولاد الحلال) وموظفو مطار جدة، إلى الإدارة المختصة بركاب «الترانسيت» لأجد نموذجاً طيباً ومميزاً لموظف المطارات الكفء، بملابسه العسكرية السعودية الواضحة، وعلى صدره ديباجة تحمل اسمه «عبد الله أحمد الغامدي».. عرف قصتي بسرعة، حمل جواز سفري، وكرت الصعود إلى الطائرة، وقال لي: «أولاً يجب أن تذهب إلى صالة انتظار الركاب العابرين، لترتاح بعض الشيء حتى نكمل كل «إجراءاتك». وداخل صالة الانتظار جاء إليّ أحد كبار موظفي الشركة السعودية للمطارات، هو السيد ماهر علي الطاهر الذي عرفني بنفسه، وقال لي إن «عبد الله الغامدي» اهتم- كعادته- بأمر تحويل الرحلة بعد أن فقدت فرصة السفر إلى «الخرطوم» في الزمن المحدد من قبل، لذلك أمامي أن أبقى إلى اليوم التالي، أو أن أغادر إلى «القاهرة» في رحلة الواحدة ظهراً، لأغادر منها بعد ذلك إلى الخرطوم عند الثالثة والربع بتوقيت القاهرة، الرابعة والربع بتوقيت مكةالمكرمة. اخترت السفر عند الواحدة ظهراً، لأصل إلى القاهرة ومايكرفونات مطارها الضخم تنادي على ركاب الرحلة المتجهة إلى الخرطوم بأن هذا هو النداء الأخير للتوجه إلى الطائرة، ثم سمعت اسمي (مغلوطاً) من تلك المايكرفونات، يستحثني من ينادي بالإسراع نحو الطائرة، فظللت استعين بالخطو السريع، وبالسلالم الكهربائية وبالسير الكهربائي الرابط بين كل أجزاء المطار كممر سريع، لأصل إلى الطائرة وهي تستعد للإقلاع.. وعلمت لحظتها أن حقيبتي و «كرتونة» الكتب اللتين شحنتهما من «الدارالبيضاء» لن تكونا في رفقتي، إذ لا يعقل أن يتم نقل الأمتعة من طائرة إلى أخرى في غضون ربع ساعة.. وهذا ما قد حدث. وصلت الخرطوم حوالي السابعة والنصف مساء متنازعاً ما بين اليقظة والأحلام كما يقول المغني، ورفاق الرحلة ينتظرون وصول أمتعتهم إلا «العبد لله».. ومع ذلك ظللت انتظر الأمل.. حتى آخر حقيبة، فتيقنت أنه عليّ العودة مرة أخرى، ونجدني وجود الزميل الأستاذ أسعد قنديل الذي كان مناوباً تلك الليلة في المكتب الخاص بالصحافة والمطبوعات، وساعدني في إجراءات التبليغ.. وذهبت إلى منزلي لا أكاد أرى من السهر وضعف المقاومة لأضع رأسي على الفراش حتى الفجر. أصبح الصبح، وتلقيت محادثة بأن الأمتعة في انتظاري.. حمدت الله كثيراً، ورأيت أن أشكر من ساعدني في الخروج من السجن المعلّق، بأقل خسائر ممكنة.. بل هي في الحقيقة أرباح أكسبتني صداقات جديدة.