راي: د. عبد الرحيم عبد الحليم محمد باسمي وباسم ملايين أحباب الأكل في بلادنا ، وددت هذا الصباح إرسال تحية طيبة إلى كل حلة فارغة أو ملأى بالثريد، وكذلك باسم أحبابي ملايين الشعراء من عهد عاد الى عهد الآيبود والإنترنت. أخص منهم الحسيب النسيب السيد الشاعر المقنع الكندي - ذلك الشاعر المقل الذي عاش في عهد بني أمية متحملاً أهوال الديون لإسعاد الحِلل ومحبيها لحماً وثريدًا فهو القائل: يعاتبني في الدين قومي وانما ديوني في أشياء تكسبهم حمدا وفي جفنة ما يغلق الباب دونها مكللة لحماً مدفقة ثردا إنني وقبل (إبتدار) حديث مع حوار مع حلل السودان وقبل الإستزادة من مناقب هذا الشاعر الكريم لأستميح الفنان الكبير عبدالكريم الكابلي عذرًا لأغير أغنيته التراثية تلك من (يا الحِّلة تنوِّري إلى يا الحَّلة تنوري ) فقد أتى زمن الدعاء بالخير والبقاء لحِلل السودان التي أراها وهي التي طالما امتلأت لحماً وثريدًا متغنية بذكرى الحسيب النسيب المقنع الكندي ، باتت خاوية على عروشها تغلي بالحصا والوهم تصبيرًا لأطفال جائعين وعجزة عطشى في بلد تخور فيه المواسير خوار الثور من الخواء والنهر العظيم يجري بباب عاصمة تعجز أن تغتسل منه كل يوم خمسة مرات فلا يبقى من درنها شيء. وقبل الإستمرار في أشجاني العاتية متحاورًا مع الحلَّة أقول أن ولعي بالحلل له بعد طفولي منذ أن كنا نشتري ونصلح حللنا لدى حسن أحمد الحلبي الذي كان يأتي إلى قريتنا معسكِرا تحت نخلة من النوع الرديء المسمى بالجاو !! ولا أدري إن كان أصل هذا النخل الذي كنا نعطى ثمره للحمير ، من جزيرة جاوه أو سومطرة. في بالي قبل حلل حسن أحمد الحلبي ، حلة عملاقة عدساً أو فولاً أو رجلة في داخلية كورتي الأولية من الطاهية المرحومة «مكة» ، وذلك الجيل يعرف قدر تلك الطاهية، وحلتها السوبر جامبو، مقارنةً بالحلل المنزلية العادية.ثم أن ولهي بالحلل ، يرجع إلى عصور شاى اللبن المقنن في البلد كالفن برعت فيه إلى جانب والدتنا أمد الله في أيامها. عمتنا زينب محمد علي أبو سوار المعروفة لدينا بزينب بت عشماني. إن أضخم حلَّة سعت بها قدم في ميادين الأفراح والأتراح في وطننا ، هي تلك الحلة العملاقة المصنوعة من الألمونيوم والتي بإمكانها أن تستوعب بعيرًا بأكمله. تلك الِحلل تستكين عادةً على رءوس البترينات ولا يتم إنزالها إلا إذا اجل خطب أو استفحل أمر أو انطلقت زغرودة وحينئذ ، تحرص الحاجَّات على ترسيم حدود حللهن بالمانكير فتجد مثلاً ترسيم يقول : حلَّة زينب الخضر ، أو حلة شامية محمد الحسن وكثيرًا ما أدى لضياع الحلل العملاقة في قرانا إلى نزاعات دموية كادت مرارًا أن تعصف بوحدة القبيلة قبل زمن من شيوع موضوع تصدع القبائل، وانهيار نسيجها الاجتماعي. ومحقها محقاً من الخارطة بسبب التفلتات الأمنية واختلال العلاقة بين المركز والأطراف. لقد تقدم لي أحد طلابي بموضوع بحث طريف هو العلاقة بين الحلل والشعوب المغلوبة على أمرها. أوشكت أن أزجر ذلك الطالب وأن أمنحه مستوى بائساً لكن هاجساً حنوناً في نفسي ذكرني بإنتمائي القروي إلى شعب يكرم الضيف بالحلل العملاقة ، حتى الموتى يولم لهم شعبي حين يتخصص فريق كامل من الطاهيات في إعداد أصناف لا تحصى ولا تعد من أنواع الطبيخ في تلك الحلل الجبارة، ففكرت ودبرت الأمر فطلبت مقابلة الطالب الذي قدم لي عرضا أراه مدهشاً كمبرر لقبول موضوع بحثه.تحدث الطالب عن ضرورة تخليد السيد حاتم الطائي وإبقائه طازجاً في عصور الجوع والمسغبة ، ثم أن الأجيال حينما تسير بذكرى السيد المقنع الكندي ، ففي ذلك تخليد لمفردات مثل عشا البايتات ومقنع القبيلة .أما السبب الأهم الذي ذكره الطالب ، هو أن الحكام الظلمة ، تكتوي بنيرهم وطغيانهم الشعوب التي شبهها الطالب في هذه الحالة بحلل البرستو أو قدور الضغط التي عندما يزيد مستوى الضغط فيها ، تحدث دوياً هادرًا يملأ جنبات المكان فتنفجر في وجه الحكام الظلمة.ثم مضى الطالب يعدد فضائل بحثه القادم مبيناً أن حلة البرستو في وجه الظلمة ، تأتي بحلة داجنة مسالمة لا تفور الا بنفس معتدل وذلك حينما يسود العدل وتمتليء الحوانيت بالبضائع الرخيصة العالية الجودة ويصبح من الطبيعي للسودانيين التحول إلى شعب نباتي بعد أن سئم من أكل اللحوم الضأنية والبقرية فأصبح الشعب شعباً رياضياً لأنه خرج منذ سنين من مصيدة البحث عن القوت ومطاردتها عبر الأسواق الظالمة التي لا تراعي عهدًا أو ترثي لحال أطفال ينتظرون. أنتظر بحث ذلك الطالب فربما كان من مقترحاته أن السودانيين ذات يوم أذا استمرت أزمة الحلل وتناقصت البيوت التي تفوح منها رائحة الطعام على حد تعبير الشاعر محمد المكي إبراهيم ، سيلجأون إلى التعبير عن حنينهم لأزمنة عناها الشاعر وفرةً وشبعاً ورضاء، إلى تسمية البنات بمسميات مثل حلَّة وجفنة وعصيدة ومديدة وكمشة والأبناء ثريد وملاح (موجود أصلاً) وعدس وبالنسبة للبنات تظل هنالك أسماء لها بريق مثل فاصوليا أو بطاطس تطلعاً لزمن قادم لا يصبح فيه البحث عن الأكل هو هم السودانيين الأول.