بمناسبة اليوم العالمي للمرأة وعيد الأم سنحكي قصص أمهات صلبات في هذه العجالة الصحفية على مدى التاريخ مركزين على وادي النيل. سنمر عليها وهي آلهة وامبراطورة وقديسة ووصية عرش وأميرات قصور وشيخات خلاوى في السودان: من ايزيس ومروراً بنفرتيتي ونفرتاري كليو باترا والعذراء شجرة الدر وقطر الندى ونساء القاهرة وشيخات مجتمع سوداني: فاطمة بنت جابر، أمونة بنت عبود، خديجة الأمدرمانية وغيرهن وغيرهن. والمرأة السودانية بعد الإستقلال أول امرأة في أفريقيا تتولى القضاء، ثم تتولى الوزارة حتى رتبة لواء شرطة رئيسة تحرير.. زوجة فرعون : ونحن نهبط «أو قل نصعد» في سلم التاريخ ، نمر الآن بحقبة«نفرتاري» زوجة الإمبراطور الفرعوني الشهير رمسيس الثاني، والذي عرف بالمعابد الفارهة، والقصور الفخمة ، ومناجم الذهب،وهو الملك الذي يجلس في تمثال ضخم في معبد أبو سمبل جنوبأسوان . هذه الملكة صاحبت زوجها في كل مناسبات التتويج المرسومة ، ولكن لأنها لم تضف أكثر مما أضافته نفرتيتي، ولأننا لا نعرف عنها الكثير سنتجاوزها إلى حقبة نبي الله موسى (عليه السلام) . هذه الحقبة كانت على مرمى حجر من ثورة أخناتون ، ومأثورته الدينية التوحيدية،إلا - فيما نعتقد - كانت إرهاصاً لظهور توحيد موسى!.. في هذه الحقبة لا نجد صعوبة في عملية البحث عن نموذج نسائي للصلابة والحكمة .والتوثيق القرآني الذي لا يأتيه الشك ، يقدم لنا زوجة الفرعون(حفيدرمسيس) بإعتبارها النموذج الأول للمرآة الصَّلبة الحكيمة هي زوجة فرعون موسى ، الذي بلغت الحضارة المصرية في عهده أوج قوتها ، ولا سيما المادية ، ولم يكن من السهل والحال هذه،أن يتنبأ الإنسان.رغم ذلك كله تنبأت بمصير تلك العروش الضخمة ، والصروح العالية . طلبت من الله أن يعوضها(بيتاً في الجنة) (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.) تجد لفتات معبرة، ومعاني لطيفة في هذا السرد القرآني، منها: أنها كانت معجبة ومنبهرة بالحضارة المعمارية التي ظللت المجتمع من عهد رمسيس الثاني، وهي باقية حتى الآن قبلةً للزوار، وأبرزها معبد أبو سنبل. رغم هذا الإنبهار، كانت لديها قدرة هائلة في قراءة مآلات الأحداث . لم تكتف بأن نسبت الظلم إلى الحكام ، بل أشركت الشعب المصري نفسه . وربما من هنا أدركت حجم المأساة التي تنتظر المجتمع ،لهذاربما استطاعت أن تغلب(عقلها) على أنوثتها المنبهرة دائماً بالصروح والعروش .صلابتها تجلت في تحديها لحاكم شرس بحجم فرعون موسى، ووفائها لأنوثتها تجلت أيضاً في أنها طلبت ما فقدته من صروح وقصور(ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) سورة التحريم الآية (11)هذه القدرة الإستبصارية ، جعلتها من أربع نسوة اختارهن القرآن من نساء قبل الميلاد.وجميعهن في(سورة التحريم) إمرأة نوح ، وامرأة لوط في القرن التاسع عشر قبل الميلاد ، ومريم ابنة عمران في نهاية الحقبة التاريخية المذكورة .الملاحظ طبقاً لتنبؤات هذه المرأة، أن مصر دخلت بعد فرعون موسى ، لما يقارب الخمسة قرون في غياهب النسيان ، ولأننا هنا نتكلم عن تاريخ وادي النيل، وليس تاريخ مصر وحدها ، سنواصل في التقاط النماذج، ولا سيما إمبراطورية السودان النوبي. ولو استطعنا أن نلاحظ، أن مصر لم يحكمها أحد من أبنائها، من حقبة موسى إلى عبد الناصر، سندرك مدى قدرة هذه المرأة في التقاط الحكم. ظاهرة الكنداكة: بعد فترة الاضمحلال والنسيان التي أعقبت عهود ما بعد ثورة موسى(عليه السلام)، بدأت الحضارة تزدهر في جنوب وادي النيل . في السودان بلغت هذه الحضارة أوجها في عهد بعانخي «751 ق . م»، وطبقاً للرؤية المعتمدة هنا : أن الأزدهار في السياسة لابد أن يصحبه نمو متوازن بين قطاعات المجتمع . وهناك ملاحظة أخرى نقرأها من التناول القرآني لهذه الفترة ، وهي أن النماذج المذكورة من النساء المتفوقات، جئن وفقاً للترتيب الزمني(نوح ، لوط ، موسى، عيسى)هذا الترتيب يقدم ضمنياً تقريراً : أن النضج العقلي للحضارة يتقدم مع تقدم الزمن . ربما هذه القراءات تفسر لنا بوضوح ما ذهب إليه عالم الآثار الأمريكي وليم آدمز:من أن المرأة في الإمبراطورية النوبية التي قامت في الألف الأخير من تاريخ ما قبل الميلاد ، تمتعت بمكانة عالية بشكل غير معتاد ، فهن شريكات في الحكم والكهانة ، وأحياناً مستشارات ووصيات عروش .يبدو أن الوصاية على العرش ،التي كانت تمنح للمرأة من وقت لآخر في الفترات السابقة ، أصبحت هنا في الإمبراطورية النوبية ظاهرة مقننة ، ويبدو أن هذا النضج الاجتماعي دخل من باب وظيفة الكهانة. كانت المعابد تقبل النساء بين صفوفها ، فالملك الأول(كاشا) والد بعانخي ألزم الكاهنة في(طيبة) في مصر، مثلاً بتبني ابنته كوريثة معلنة. أما الملك النوبي ترهاقا ، وريث بعانخي الذي حكم بلاد النوبة في 689 ق.م . فقد طلب حضور أمه إلى مصر ، قاطعة مسافات طويلة من أواسط السودان إلى أواسط مصر كي تشهد فقط تتويجه ، وورث في نهاية الأمر ابن أخته.ويتكرر هذا الأمر مرة أخرى مع أنلاماني آخر ملوك نبتة في 623 ق.م ،الذي كان لا يتم تتويجه إلا بحضور أمه وشقيقاته. هذه الظاهرة في احترام قدر المرأة، يقرأها العالم الأمريكي وليام آدمز مستنتجاً من البهاء الذي كان على قبور الملكات بالمدافن النوبية . بل ويذهب إلى أن(المكانة الرفيعة هذه ربما هي سبب اعتبار الرومان أن الكنداكات كن ملكات). ويرجح أن هذا اللقب كان يطلق على وصيات العروش ، وليس على ملكات حقيقيات، وكان يطلق على الوصية الواحدة(كدكي) ، دليله على ذلك أن الملكات الخمسة اللاتي ظهرن في القرون الأخيرة،لم يكن بينهن تعاقباً زمنياً، ومنهن الملكة برتاري 280ق.م، هي أول ملكة سودانية. يقول عنها(الأب فيليوثاوس) في كتاب(النوبة وطن الذهب) أنها دفنت في البجراوية(الهرم العاشر) وبنت هرمها بيدها وسط اهرامات الملوك، ونقشت الألقاب الملوكية(ابن رع وملك الجنوب والشمال). الملكة الحقيقية الثانية كانت الملكة (شنك دخفو) وحكمت ما بين)160-170) قبل الميلاد. أما الملكة(أماني شختي) التي عثرت على زينتها وذهبها بشكل كامل فقد كانت في حوالي عام (41) ق. م. يصفها مصدرنا السابق بأنها كانت عوراء مسترجلة، تقيم خارج العاصمة وابنها كان يقود جيشاً. فهي بهذه الصفة كانت أقرب إلى وصيات العرش(كنداكة)، وكذلك الملكة (أماني تيري) التي عاصرت المسيح والتي أشار إليها الانجيل ب(الكنداكة) التي آمن وزيرها بالمسيح وهو عائد من القدس. هذه الملكة كانت بين الوصية والملكة؛ لأنها كانت تحكم بالمشاركة مع زوجها (نتكامي). يبدو في هذا التحليل أن أنسب مكان للمرأة كحاكمة ، إحدى صورتين: 1/ وصية تحرك الأمور من وراء ستار 2/ أو رمز على أمة معروفة بالقوة والمشورة .. كقوم بلقيس في اليمن . الصورة الأولى هي التي جسدتها الإمبراطورية النوبية أكثر من غيرها في وادي النيل. هذه الحقيقة سجلها المؤرخ الإغريقي هيرودتس ، حينما زار وادي النيل في القرن السادس قبل الميلاد ، وهي حقبة السيطرة النوبية . ينقل عنه الأستاذ عبد الله إمام في كتابه (صفحات من تاريخ المرأة المصرية) قوله:إن هذه البلاد تختلف سائر الاختلاف عن غيرها من الشعوب، فالنساء عندهم يرتدن الأسواق ويمارسن التجارة).. وفي موقع آخر يصفهن بالتفوق في ملكية الأرض ويعزى ذلك لنظام التوريث. كيلوباترا: في الفترة التي بدأت تنتقل فيها مراكز القوة إلى شمال وادي النيل ، بانهيار الممالك النوبية ، وانتقال الحضارة الإغريقية الرومانية إليه - ظهرت.وهي إبنة الملك البطلمي بطليموس الثالث، الذي حكم مصر بعد غزو الإسكندر الأكبر لها. ظاهرة المرأة المتفوقة في تجربة كليوباترا، كانت نتيجة مباشرة لبروز الهجين الحضاري(الإغريقي المصري الروماني السوداني النوبي). تقديس حقوق المرأة لم تأت مع الرومان، فقد كانت بضاعة محلية طبقاً لشهادة المؤرخ الإغريقي السابق الذكر. تقبل المجتمع لظاهرة المرأة المتفوقة بلغت في تلك الفترة، درجة قتلهم للملك (ابن بطليموس) لأنه كان قد قتل الملكة المحبوبة(برنيق الثالثة ). مثل هذه الثقافة ، كانت هادية لبطليموس الثالث ، عندما وصى بإشراك كيلوباترا في الحكم . بصلابتها وحنكتها انتصرت على أخوها الملك بعد صراعات مريرة ولقبت نفسها ملكة . يصفها مصدرنا السابق في كتابه:(كانت شخصية فريدة، فهي آخر الملوك المستقلين الذين حكموا مصر منذ مينا. وقد حكمت بذكائها وبأنوثتها أيضاً...) ثم يعتبرها على لسان المؤرخين أعظم خلفاء الأسكندر الأكبر، ويقول إن روما رغم قوتها كانت تخشى هذه الملكة. وبالفعل استطاعت أن تغزو وعي المجتمع الروماني ، وقد يسجل لها أنها أكثر ملكة في وادي النيل استطاعت أن تستغل سلاح الأنوثة في معاركها السياسية. تحكي الروايات قصصاً مثيرة عن أيامها الأخيرة بعد هزيمتها في موقعة (أكتويوم) البحرية في أكتوبر عام (31) قبل الميلاد. حاول القائد الروماني المنتصر(أوكتافيوس)أن يأخذها أسيرة ذليلة إلى روما (ليظهر البطولة أمام الشعب الروماني وهو يجر وراءه أعظم ملكة في العالم التي غزت روما عن طريق غزو قلبي قيصر وأنطوني)، وعندما علمت بذلك جمعت كل مقتنياتها وكنوزها وأشعلت فيها النار ثم انتحرت!! وحتى الآن يبحثون عن قبرها وسيرتها الحقيقية ولكن الباقي أنها آخر الملكات القويات في سلسلة ملوك ما قبل الميلاد ، فبعدها بقليل ولد المسيح وبدأ مفصل جديد من تاريخ البشرية.