ةصدفة أجمل صدفة، وكانت «صدفتين» الأولى في ذلك اليوم الحزين التاسع عشر من فبراير العام المنصرم، وذلك عندما حطت بنا الطائرة بالميناء الجوي لأديس أببا عند الساعات الأولى من صبيحة ذلك اليوم، ولم تمض سوى سويعات على رحيل الموسيقار الأستاذ محمد عثمان وردي.. أما الصدفة الثانية تلك الدرة الرائعة التي تعتبر من روائع الراحل صاحب الصوت الأناناسي، حيث أتوقف عند هذه الرائعة «صدفة أجمل صدفة»، التي استقبلنا بها قائد أجرة التاكسي حين تأكد له أن هؤلاء القوم من أشقائه أهل السودان وهم ضيوف على عاصمة الهضبة الأثيوبية أديس أبابا.. وما إن أدار مفتاح السيارة إذ به يزج بأحد أشرطة الكاسيت للراحل وردي مطرب أفريقيا الأول، الذي وصفه بهذه الصفة كل من الراحل «تلهون قسسا» و«البلبلة الغريدة استير أواكي» و«محمود أحمد جوهر» وكلهم من أهل الفن وعمالقته بالهضبة الأثيوبية. كانت البداية صدفة، ثم الطير المهاجر، وكان في معيتي نائب المدير العام ومدير العلاقات العامة ومدير التسويق لمصانع الأفراح للتبغ المعسل، حيث كان لهم عظيم الشرف للمشاركة بمعرض أديس أبابا العالمي التجاري..لم تكن تلك الروائع قد تم توزيعها بالخرطوم، بل كان التوزيع والتسجيل داخل أحد المنتجعات بالهضبة الأثيوبية «كورفت»، الذي يقع على ساحل أعظم البحيرات الأفريقية «بحردار» كما يسميها أهل تلك البلاد والبعض يطلق عليها «طانا»، وباقي سكان المعمورة يسمونها «تانا»، حيث كانت الأوركسترا من أنامل أهل أثيوبيا، مما أثار حفيظة الأخ أمجد إسماعيل مدير العلاقات العامة، وله إسهامات شعرية وفنية تغنى بها بعض الشباب الذين اعتلوا الساحة الفنية، حيث طلب من السائق نسخة لهذه المادة حينها، ودعنا السائق ورحل عنا. عند الساعة الخامسة وقبل المغيب إذا بباب الفيلا التي نقطن بها يطرق، فإذا بالسائق ومعه شريط الكاسيت، وحينها كنا نتناول وجبة الغداء، حيث دعوناه ولبى الدعوة وعندما سألناه عن قيمة الكاسيت كان الرد عظيماً، أخرس كل من كان يجلس حول المائدة، وبالحرف الواحد أفصح.. ما قدمه الراحل وردي لا يباع ويشترى بعد رحيله، لأنه باهظ الثمن ولو كان وردي على قيد الحياة لقبضت الثمن، ولكن وردي رحل وتبقت صدفة أجمل صدفة، والطير المهاجر يهاجر ويعود.. أما وردي فقد هاجر بدون عودة، وفي تلك اللحظة أدركته صلاة المغرب، حيث طلب سجادة الصلاة وبعد الانتهاء من الصلاة ودعنا ورحل. هذا انطباع سائق الأجرة، ولكن ماذا قال أهل الفن عن الهرم الراحل؟. عند القرن الماضي وفي منتصف الستينيات كانت هناك دعوة من قبل حكومة السودان للملك الراحل فيصل بن عبد العزيز عليه الرحمة، والإمبراطور الراحل «تفري مكنن» هايلو سلاسي، وذلك من أجل الاحتفاء مع أشقائهم أهل السودان لافتتاح سد خشم القربة، والمشروع الزراعي، وتوطين أهالي حلفاالجديدة.. حيث كانت في معية الإمبراطور الفرقة الماسية الخاصة به للفنون الشعبية، التي تقودها المطربة «تللا» والراقصة «ميرف»، وحينها لم يتجاوز عمري الثمانية أعوام، مما جعلني أعشق هذا الفن الرائع إلى يومنا هذا.. والرواية طويلة لا مجال لذكرها، لذا من الطبيعي أن تكون هناك علاقة تربطني مع أهل الفن بأثيوبيا.عند أمسية ذلك اليوم توجه البعض لأحد المراقص «إبكس» ومعظم الرواد من أهل السودان نسبة لصاحبة المرقص المطربة «تقست» التي تمتاز بأداء روائع المرحوم الراحل عثمان حسين، وعلى رأس هذه الروائع «مسامحك يا حبيبي»، حيث أعلنت الإدارة الحداد لرحيل المطرب محمد وردي، والسبب الرئيسي إن المطربة تقست كان لها الشرف لإحياء آخر حفلة خارج أثيوبيا بدولة الإمارات مع الراحل، وبثتها قناة النيل الأزرق عدة مرات.وفي اليوم الثاني هاتفت المطرب محمود أحمد جوهر فنان أثيوبيا الأول حالياً، الذي تربطه علاقة وطيدة بالموسيقار الراحل، وأنا أعلم ذلك جيداً كانت نبراته حزينة، وهو يوجه لي بعض الأسئلة ومن ضمنها أسباب العلة، وكم ترك من البنين إناثا وذكورا، ومن سلك طريقه من أبنائه. أما المطربة «أماللي» كانت الصدفة عند اليوم الثالث للمعرض أمام مدخل فندق الشراتون، حيث كانت إحدى المدعوات من قبل إدارة المعرض، وعند رؤيتي انهارت وأجهشت بالبكاء.. أما الفنان الصاعد حديثاً «مادنقو» الذي يتغنى برائعة الراحل الموسيقار سيد خليفة «أنت السماء بدت لنا» ولكن باللغة الأمهرية «أنت كونجو تلونا إما» أي «إنت يا حلوة تعالي إليَّ سريعاً» حيث يمتاز هذا الفنان بأغاني المناجاة (Slow) ومن أشهر أغانيه «تزتا»، أي الذكريات وأيضاً «برتكاني باتي باتي» أي برتقال باتي وباتي منطقة ببلاد أثيوبيا تشتهر بحلاوة برتقالها، حيث أفصح هذا المطرب وبالحرف الواحد بأن الراحل محمد وردي استطاع أن ينتج عملاً فنياً رائعاً، مما جعله يوصف بمطرب أفريقيا الأول والعمل الفني رائعته «الود» وأجزم إن التوزيع والنوتة الموسيقية التي صاحبت هذه الأغنية من أجمل الأعمال التي جعلته يحاول ترديد هذه الأغنية، ومنذ ثلاثة أعوام وإلى رحيله ولكن لم يستطع ذلك رغم الترجمة من العربية إلى الأمهرية. لقد رحل محمد وردي وودعته الملايين بالخرطوم، ولكن كيف كان حال أهل أديس أبابا.. لقد أخجل أهلها أشقائهم بالسودان، والدليل على ذلك انطباع أهل الفن بأثيوبيا، أضف إلى ذلك تلك الأغاني التي تغنى بها الراحل ويصدح بها في أماكن بيع الأشرطة.. حيث وصلت إلى أرقام خرافية جعلت كلما أدرك أحد الإخوة الأثيوبيين بأنك سوداني إلا وتساءل في دهشة وبادرك بسؤال تشعر من خلاله أن هذا الشخص بين مصدق ومكذب لهذا النبأ، مع العلم بأنه يعلم جيداً إن البقاء لله وحده، ولكنها سنة البشر لمثل هذه الأحداث، حيث اعتادوا على مثل ذلك وكأن محمد وردي من عائلة أثيوبية لا نوبية، ولم لا والدليل على ذلك إن أشهر ملوك بلاد الحبشة العليا في الماضي- أي أثيوبيا حالياً- يدعى «أثيو» وهو شقيق الملك «كوش» أشهر ملوك بلاد الحبشة السفلى، وتعرف الآن بالسودان، وكلاهما أحفاد حام بن آدم عليه السلام، ومن أشهر أبناء الملك كوش الملك «أفيروكاساي» ملك ملوك الزمان، حيث اشتقت كلمة أفريكا من اسمه، وهو والد هاجر زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام، وما تلهون قسسا ومحمد وردي سوى وجهان لعملة واحدة.في اليوم الختامي للمعرض أقامت اللجنة المنظمة مأدبة عشاء وحفلاً غنائياً راقصاً بفندق الهيلتون في البداية، وقف الحضور دقيقة حداداً على الراحل محمد وردي، بعد ذلك بدأ البرنامج لتلك الأمسية التي أبدع فيها أحد مطربي الفن الأثيوبي، حيث أطلق العازفون من الأنامل مزاميرهم وأوتارهم وطبولهم على آلة الماسنكو والكرار، وجعلوا الحضور من كل أنحاء العالم يتمايلون طرباً ورقصاً على أنغام رائعة البلبل الراحل التي تغنى بها شباب أهل الفن من أثيوبيا، حيث أنشد قائلاً: التمودة الفي صبيطتة الصفار فاقع خضرتها معذورة أمها كان دستها الفي جبل عرفات وضعتها تسلم البطن الجابته دي ترباية حبوبته وا هلاكي الناس شافته معذباني انا ود حلتها القمر بوبا عليك تقيل.