نظرة واقعية لعلاقة أزلية يجب أن لا ننظر الى علاقتنا مع الشقيقة مصر متجزئة منشطرة، وإنما كهيكل متكامل، فإن كانت السياسة كما الطقس- العوامل المؤثرة في احداث الغد يمكن رصدها من اليوم، ومتابعة حركتها المتجهة الينا دون أن يكون ذلك تطاولاً على الغيب أو رجماً به.. يكون إذن أمر العلاقة المستقبلية مع مصر في غاية البساطة إن أردنا أخذه من المنظور التقليدي لهذه العلاقة، ولكنني اعتقد أنه لابد من الآتي: أولاً: إننا يجب أن نسمو بعلاقتنا مع الشقيقة مصر لإخراجها من القمقم التقليدي العاطفي الذي اغلقناها فيه!! فلا خير فينا إن لم نكسر هذا القمقم والعقلية الخربة من ورائه، والفلسفة القاصرة التي تشكله.. دعونا من العواطف فهي لم ولن ترسم السياسات في يوم من الأيام، وإن آفة علاقتنا بمصر هي عاطفيتها التي لا تغني ولا تسمن من جوع.. صحيح أنني أنظر لهذه العلاقة الأزلية الأبدية من منظور حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته عن أبي بكر رضي الله عنه إذ قال:(إنه لا يفضلكم بصوم أو صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه)، فهذا الشيء الذي وقر في قلب السودان هو الذي يفضل مصر عندنا ويفضلنا عند مصر.. ما أردت الدعوة اليه هو أنه يجب أن يكون لنا كشعب واحد مصري وسوداني ذاكرة تجعلنا على الأقل لا نعيد الدخول في تجارب خاسرة، أو قل تجعلنا لا ننسى من غامر بمصائرنا في تجارب فاشلة. ما أردت الدعوة إليه ليس هو الحياة في سراديب الذاكرة، لكن هو الاستفادة من دروس الوعي بإحداث هذه الذاكرة، جميل جداً أن تكون هناك عواطف جياشة ومحبة صادقة بين الشعبين، لأنها تبني الأساس الحقيقي لأية علاقة مثمرة ومتميزة، فالحب يقوم على دعائم أربع هي الاحترام، التعاطف، الثقة، والتفاهم، وهي غايات كل علاقة سياسية اقتصادية واجتماعية، ولكي نحدث ذلك فنحن في حاجة الى ثورة عقلية تكرس هذه القيم وترتب هذه العلاقة بعقلانية، وهذه أولوية الأوليات في نظري (عقلانية العلاقة + ثبات العلاقة واستدامتها). ثانياً: أصبح الاستسهال ظاهرة عامة في حياتنا، وهذا بلا شك انعكس على العلاقة بين الشعبين، وأدى الى هبوط وتردي على مستوى الأداء العام في هذه العلاقة حتى العادي منها، بالإضافة الى البيروقراطية وسلحفائية التحرك مع الضبابية التي تكتنف أس العلاقة سداة ولحمة، فالكل ينظر الى ما يعترض علاقاتنا من مسائل على أنها سطحية ومقدور عليها، ورغم ذلك تظل عالقة ومتفاقمة. ثالثاً: إن مشاكل هذه العلاقة المزمنة لا تحتاج فقط الخبراء، بقدر ما تحتاج في تحريكها لتؤتي ثمارها الى المبتكرين والمصادمين أصحاب الرؤية الصافية.. لأن الخبرات العلمية متوفرة (على قفا من يشيل)، ولكن كيف الوصول الى صنعاء وإن طال السفر؟؟ اتذكر دائماً المثل الانجليزي القائل (البراميل الفارغة تحدث الجلبة).. حقاً أن كثيري الكلام قليلو العطاء، يغطون اخفاقاتهم وأنانيتهم بهذه المظاهرة من الكلام، والثرثرة، والنقد.. ويقيني أنهم لايخدمون هذه العلاقة إن لم يخربوها. رابعاً: لابد من إخراج هذه العلاقة من اطار الشعارات والمزايدات وزخم اصطناع النوايا الطيبة، فهناك تناقض واضح بين النوايا الطيبة وبين تنفيذ تلك النوايا، وهو تناقض تعرفه معظم الأنظمة التي تطرح شعارات وبرامج فوق قدراتها وقدرات المرحلة التاريخية التي تعيشها، وترتكز ارتكازاً مطلقاً على الماضي في سعيها للخروج من أزمة الحاضر، والحديث عن الوحدة والتكامل كشعار، دون مشروع تتبادل فيه المصالح، وبرامج علمية وآليات إنفاذ عملية «حرث في البحر» «جري وراء سراب» لا نحصد من ورائه إلا اليباب. خامساً: إن بعض الشعوب تهرب من مواجهة الحقائق، وتجري لاهثة وهي تتصور أنها تطارد أحلامها، وهي في الواقع تطردها، وبعض القيادات تتصورأن عداوتها الداخلية والخارجية تعطيها الفرصة لبناء قاعدة قوية، وأخرى لا ترى نجاحاً إلا في اجتهاداتها الذاتية والخاصة، ولو في هدم ما، هو قائم لتبنى على انقاضه أوهامها في أمجاد خاصة... هؤلاء هم لا تخصيص... أعداء هذه العلاقة والذين يعيقون استدامتها.. إن مرحلة الهرب من الحقيقة تقود الشعوب الى المرحلة الثالثة، وهي مرحلة التراجع وربما مرحلة الهزيمة في تحقيق أحلامها.. هذا الموضوع يجب أن يكون واضحاً وجلياً أمامنا نواجهه ولا نتوارى منه. سادساً: ليس المهم أن تكون لديك المعلومات المهم أن تعرف كيف تتصرف بهذه المعلومات، كيف تدير ما لديك من معلومات لتحقيق المصالح التي تنشدها المصالح المشتركة لشعبينا.. عندما تتصادم أسس أي فكرة مع عملية تجسيدها على أرض الواقع، فإن هذا التصادم في حد ذاته يجب أن يدلنا على أن هناك خللاً ما في مكان ما.. لابد أن نبحث عنه وأن نكتشف موضعه، ثم نحاول إصلاحه.. هذا ما نبتغيه غاية ووسيلة.. لخلق علاقة وطيدة ومستدامة بين شعبينا استفادة من تجارب التاريخ وحقائق الجغرافيا ومقتضيات الوقت. لابد من خطة عمل متكاملة تكون هادياً لنا ودليلاً لترشيد هذه العلاقة وتعميقها وجعلها هدف كل مصري وكل سوداني، كل فرد في أرض هذا الوادي وليس الحكومات وحدها.