الولاية الشمالية بمساحاتها الممتدة وبتعدد قبائلها وبصماتها، تعتبر منفذ السودان للشمال، وتعد زاد السودان في كثير من السلع والخبرات، وعرف عن أهلها الكرم والنخوة والإقدام، وقد حكى التاريخ عن مواقفهم في مواجهة الاستعمار، وقد تدفق كرمهم للحد الذي يمكن أن يضحوا فيه بأراضيهم وذكرياتهم من أجل الوطن الكبير، ومن قبل شهدنا كيف أن أهالي حلفا قد ضحوا ببلدتهم لتغمرها مياه السد العالي، دون حتى أن يفكروا في حجم التعويض الذي يطالعهم طالما أن الهدف قومي، وهاهم الشايقية من مناصير وغيرهم ضحوا بأراضيهم في سبيل غاية عظمى هو سد مروي، وما أصعب على الإنسان أن يرى أرض أجداده وذكريات الصبا ومرتع الحياة، تغمرها المياه برضاء كامل منه، وهاهم يرون بأم أعينهم كيف أن مياه السد تجرف كل تلك الديار والآثار، وهو مشهد لا تعوضه كل صور التعويض، ولكنها التضحيات، وأن تغلبت على البعض منهم عواطف المكان والانتماء، إلا أنه في سبيل الغاية الكبيرة تهون كثير من الكنوز المادية والنفسية. والدولة أدركت كيف أن التضحيات كانت كبيرة، فأرادت أن تخفف الوطء بتعويضات تعوض ولو القليل فكان التعويض المادي المعتبر عوضاً عن الزروع والأراضي، والتعويضات بقرى بديلة في المكابراب وأمري وخلافه، ووفرت لها كل مقومات الحياة من مساكن جاهزة، ومساحات رحبة، وخدمات في المياه والكهرباء والصحة، ما كان هؤلاء يتمتعون بها من قبل- على حد قول المزارع النوراني محمد علي- وهو يتأمل في زروعه التي تتمدد أمامه ويقول إن التعويض كان مجزياً لاسيما في البيئة السكنية حيث كل شيء متوفر الصحة والتعليم والمياه والكهرباء، حيث كان أطفالهم محرومين من كثير من تلك الخدمات، والتي كانوا يعانون الأمرين في الحصول عليها. وينظر بإعجاب إلى الحاصدة التي تعمل في حصد إنتاجه من القمح، ويحمد الله على ما هم فيه الآن من نعيم.. إنه نموذج من عشرات المزارعين الذين يتحلقون حول أراضيهم التي جادت بحصاد وفير في القمح، والطماطم، والبرسيم، والبطاطس، بل والتقنية التي انتظمت الزراعة بحيث لا يحتاج المزارع منهم لعمالة كبيرة في وجود الزرَّاعات والحاصدات، التي اختزلت العمالة والزمن، بل لم يقف الأمر عند هذا الحدر بل تجد الري المحوري قد ثبت بأركان كثيرة من المساحات، يوفر الري المنتظم لآلاف الأفدنة، وفي كل الأجواء ليجئ الحصاد على قدر العمل خيراً وفيراً.. بل تجد في انتظارها الثلاجات لحفظ الحصاد من بطاطس ودواجن وخلافه. إن الحياة التي دبت بالشمالية بعد عمل هذا السد تعد من الخوارق في زمن بات لا مكان فيه لتلك الخوارق، فالصحراء باتت تتراقص على سطحها سنابل القمح والبرسيم، والأسفلت غزا تلك الصحاري التي كانت تعوق السير لتسهل حركة المواطنين والعربات، والكباري التي انتصبت على عرض النيل لتربط بين تلك الأطراف التي كانت تشكو التواصل والوصول، وشباب مسلحون بالعلم والقدرة يقفون خلف هذه المشاريع بالبحث والتجارب، حتى أثمر عن هذا الواقع الحي. إن أي من أهل تلك البقعة العزيزة من وطننا لو سألته إن كان غشاه حلم بواقع مثل هذا الذي يعايشه الآن، لأنكر ذلك وحسبه شيئاً من الخيال الذي يتراءى له، فقارن بين المنجل والحاصدة.. وبين الكهرباء والرتينة، وبين الكبرى والبنطلون.. وبين.. وبين .. إن المقارنة معدومة إن نظرنا بعين المحايد.. لقد عاش أهل الشمالية عهوداً قاسية، جابهوا فيها كثيراً من المشاق بكثير من الصبر، وهم أناس جبلوا على الصبر متمسكين بالمقولة (الشكية لغير الله مذلة).. لذا كلما ضاقت عليهم الحياة حملوا عصا الترحال حتى تكاد تجدهم في كل بقاع الأرض داخلياً وخارجياً.. وفنانهم يهزج(ديار ناس أبتني عديل أخير أرحل)، فجعلوا يزرعون تراثهم في كل موضع ارتحلوا اليه، وجعلت بصمتهم تثمر في كل موضع حلوا به.. إن أهل الشمال قد صبروا فنالوا جزاء صبرهم، فما أثمره سد مروي بهذه الأنحاء ما كان يدور يخلد أحد منا بالنصف الممتلئ بالكوب، يتجاوز خط الفراغ إن أمعنا النظر.. ومازال المستقبل واعداً إن أعملنا الترويج لتلك الإمكانات الكامنة بتلك الولاية.