* بواعث القلق وبؤر التوتر والأزمات في مصر كثيرة ومتداخلة تأخذ برقاب بعضها البعض، كل أزمة تنتج أخرى أو تترافق معها وتغذيها وتدفع بها إلى مشارف الانفجار والمواطن المصري حائر يتلفت يتحسر، يضرب كفاً بكف ويطلق السؤال الصرخة «وبعدين.. ودا حدو فين» دون أن يأمل في إجابة أو ينتظر من يجيب.. وإذا ما حاولنا أن نضع عناوين عريضة لبؤر التوتر والأزمات، برغم استحالة الحصر، فيمكنا أن نركز لأغراض هذا التقرير- على أربعة منها تتفرع عنها العديد من المشكلات والتعقيدات اليومية التي تضرب مفاصل المجتمع والدولة المصرية، أولها الانقسام السياسي الذي أعقب انفضاض الثورة والثوار من ميدان التحرير في أعقاب سقوط النظام بعد وقفة الثمانية عشر يوماً-من 25 يناير إلى 11 فبراير- وثانيها انفراط الأمن العام الذي ترتب على انهيار منظومة الأمن الداخلي أثناء الثورة وفقدان مؤسسات الشرطة وقواتها للهيبة وطاقة الردع، وثالثها التردي الاقتصادي وما ترتب عليه من غلاء في الأسعار وازدياد في نسبة البطالة واشتداد في حدة الفقر وتمدده ليلتهم شرائح كانت تتمتع بالحد الأدنى من مطلوبات الحياة الكريمة. ورابعها الفتنة الطائفية التي بدأت تطل برأسها عند كل منعطف بين المسلمين والمسيحيين فتسيل الدماء وتزهق الأرواح لأتفه الأسباب، مثلما حدث الأسبوع الماضي في مدينة «الخصوص» بالقليوبية وانتقاله إلى مقر الكاتدرائية في حي العباسية بالقاهرة، ما اضطر البابا تواضروس للاعتكاف في ديره بوادي النطرون. * آخر مشهدين معبرين عن حالة التوتر والارتباك والأزمات التي تعيشها مصر كانا أواخر الأسبوع الماضي ومطلع الأسبوع الحالي، المشهد الأول كان اجتماع الرئيس محمد مرسي مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة وما صدر رسمياً وما رشح عن ذلك الاجتماع الاستثنائي، والمشهد الآخر تمثل في إعادة محاكمة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك بتهمة قتل المتظاهرين أثناء أيام الثورة . * قالت بعض الصحف المصرية، استناداً إلى مصادر عسكرية أن الاجتماع الذي عقده الرئيس مرسي مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة جاء بطلب من الرئيس لدى لقائه الفريق أول عبد الفتاح وزير الدفاع والإنتاج الحربي يوم الثلاثاء الماضي بعد أن نقل له الأخير استياء وغضب الجيش من حملات الإساءة والتشويه التي يتعرض لها، استغرق الاجتماع أربع ساعات ووصفته بعض المصادر بأنه «لقاء الطمأنة»، وهو بحسب ما تابعناه على شاشات التلفزيون من حديث للفريق السيسي ورد من جانب الرئيس مرسي، في حالة نادرة لا تتكرر عادة في أعقاب اجتماعات المجالس العليا للقوات المسلحة أو مجالس الأمن القومي في جميع دول العالم، تؤكد أن هناك أزمة حقيقية طالت العلاقة بين مؤسسة الرئاسة والحزب الحاكم «حزب الحرية والعدالة» الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين من جهة.. والقوات المسلحة متمثلة في قيادتها الحالية برئاسة الفريق السيسي من جهة أخرى.. فقد تركزت كلمة الفريق السيسي المتلفزة على ما تتعرض له القوات المسلحة من إساءة ونبه بلطف وحزم في آن معاً، من حساسية القوات المسلحة ضباطاً وجنوداً من مثل هذه الإساءات قال: إن الجيش مؤسسة وطنية جداً وشريفة وحريصة على بلادها، ولم تقم بأي عمل أو إساءة ضد الشعب خلال العامين الماضيين، وسلمت السلطة في 30 يونيو لتقوم برفع الكفاءة القتالية والمعدات بمعدلات غير مسبوقة، وأضاف السيسي: أقسم بالله العظيم أن القوات المسلحة منذ يوم 25 يناير 2011 لم تقتل ولم تأمر بقتل ولم تخن ولم تأمر بخيانة وعلى كل من يسمعني عبر وسائل الإعلام أن يخلي باله قبل أن يغدر بجيشه. * ما يؤكد أن الاجتماع بالفعل كان من أجل «طمأنة» القوات المسلحة المنزعجة مما يتردد في بعض الأوساط- إسلامية ومعارضة على حد سواء- وتعتبره إساءة لها ولقيادتها هو رد الرئيس مرسي على كلمة السيسي الواقف إلى جواره في المشهد المصور عقب الاجتماع الذي أكد فيه رفضه الإساءة للجيش معتبراً أن أي تعد على الجيش يعد تعدياً على المجتمع كله، وقال: أود أن أذكر أنه لا يمكن أن أسمح بأي نوع من الإساءة أو التعرض أو التعدي على أي فرد بالقوات المسلحة بدءاً من القائد العام ومروراً بالمجلس وباقي قياداته وضباط وصف وجنود، وهذا موجه إلى المجتمع كله، فأي إساءة للقوات المسلحة هي إساءة لنا جميعاً. * لم تكن مسألة الإساءة والتي تصاعدت أخيراً من أكثر من جهة أبرزها جاء على لسان أحد قياديي مجلس شورى الإخوان المسلمين يدعى «الظايط» كان قد تحدث عن القوات المسلحة وأشاد بها في قصيدة منظومة تم بثها عبر بعض القنوات لكنه أشار في تلك القصيدة، بل ختمها بقول إن تلك القوات يقودها «فأر»، الأمر الذي اعتبره بعض المحللين السياسيين مقدمة للإطاحة بالقيادة الحالية للقوات المسلحة، كان هناك أيضاً حديث من بعض الناشطين الليبراليين تداولته بعض المواقع الإلكترونية وأوردته بعض الصحف حول دور القوات المسلحة أثناء الثورة وبأنها سمحت لمؤيدي النظام السابق أو شارك بعض أفرادها في قتل الثوار، وهذا ما استدعى الفريق أول السيسي للقسم بأغلظ الإيمان بأن «القوات المسلحة لم تقتل ولم تأمر بقتل ولم تخن ولم تأمر بخيانة» لكن أهم ما في هذا المشهد-مشهد الاجتماع الاستثنائي المذاع والمتلفز هو تأكيده أن هناك نوعاً من النزاع المكتوم وعدم الطمأنينة وضعف الثقة كان وراء انعقاده أصلاً، خصوصاً وقد تناول الاجتماع بحسب ما رشح للصحف المصرية من مصادر عسكرية مسؤولة، أن القادة تحدثوا في الاجتماع عن مسائل تخص الأمن القومي للبلاد، منها مثلث حلايب وشلاتين ومشروع تطوير قناة السويس و الأوضاع في سيناء وأوضحوا أن التصريحات التي وردت حول تنازل مصر عن جزء من أراضيها تؤثر على الرأي العام والقوات المسلحة، وربما حديث القادة هذا هو ما دعا الرئيس مرسي كي يقول في رده على كلمة السيسي «إنه تمت في الاجتماع مناقشة آليات أمن الوطن، وحماية حدوده الشمالية والشرقية و(الجنوبية) وإنه لا مجال للحديث عن أي نوع من التفريط في حبة رمل واحدة لهذا الوطن، حيث أن الحامي الأول والحقيقي لهذه الحدود هو القوات المسلحة».. وفي هذا إشارة مبطنة إلى التصريحات التي أدلى بها مساعد الرئيس السوداني موسى محمد أحمد، ممثل الشرق في هيئة الرئاسة، من أن الرئيس مرسي وعده خلال لقائه به في ختام زيارته للسودان بالنظر في إمكانية عودة مثلث حلايب وشلاتين إلى ما كان عليه قبل عام 1995، الأمر الذي نفاه المتحدث باسم الرئاسة فور عودة مرسي إلى القاهرة. * يحدث كل هذا في وقت تتصاعد فيه دعوات من مواطنين عاديين إلى عودة الجيش إلى الحياة السياسية لضبط الأوضاع والتمهيد لانتقال سلس لحياة ديمقراطية، للدرجة التي أصبح معها بعض الناشطين، خصوصاً في مدة القناة يجمعون التوقيعات والتوكيلات التي تطالب الفريق السيسي باستلام السلطة كما أن بعض النخب بدأت تتحدث عن أنه لا مانع من عودة القوات المسلحة إلى السلطة لفترة انتقالية محدودة لعام أو عامين تمهد فيها لإجراء انتخابات حرة ونزيهة كما قال أخيراً د. سعد الدين إبراهيم رئيس مركز بن خلدون للدراسات السياسية والاجتماعية، وهي دعوة لم تجد، على كل حال، صدى قوياً أو تعاملاً جدياً من جانب القوى السياسية الرئيسية الحاكمة والمعارضة على حد سواء، بالنظر إلى ما قد يترتب عليها من مخاطر وارتداد بالثورة المصرية برغم كل الصعوبات والأزمات المتلاحقة. * أما المشهد الثاني، وهو إعادة محاكمة الرئيس مبارك وأعوانه في الداخلية بقيادة الوزير حبيب العادلي ومساعديه الستة وفقاً للأدلة الجديدة التي جمعتها ووثقتها لجنة تقصي الحقائق التي شكلها الرئيس مرسي للنظر في قضية شهداء الثورة، فقد كان هذا المشهد موضوعاً رئيسياً للقنوات الفضائية المصرية ليلة السبت.. ففي الجلسة الأولى وهي جلسة إجرائية، بدا الرئيس السابق حسني مبارك أكثر صحة وانتعاشاً، جلس علي كرسيه أو سريره المتحرك مرتدياً نظارة سوداء وأخذ يبتسم ويلوح عبر القفص الحديدي بيده لمؤيديه في قاعة المحكمة، على عكس حالته في جلسات المحاكمة السابقة حيث كان ممداً على سرير المرض لا يكاد يقوى على رفع رأسه، يحيط به أبناؤه ويحاولون منع التصوير واقتراب الكاميرات منه، وركزت الفضائيات على هذه المفارقة والتبدل في حالة مبارك وحاولت أن تجد لها تفسيراً وتحليلاً عبر ضيوفها الكثر، والذين أجمعوا كلهم تقريباً- ما عدا منسوبي الحزب الحاكم- على أن مبارك يبدو أكثر حيوية وابتهاجاً بالنظر إلى أحوال البلاد المتردية، و أنه ينطلق من المقارنة بين ما كان عليه الوضع في عهده في كل المجالات- الأمن والاقتصاد والعلاقات الخارجية والسلم الاجتماعي- وبين الأوضاع الراهنة، وكأنه يقول للمصريين إنكم تعيشون في ما حذرتكم منه من قبل، بعبارته الشهيرة «أنا أو الفوضي»، كما رأى آخرون أنه ربما راوده بعض الأمل في أن تحكم المحكمة لصالحه ويطلق سراحه، برغم أنه احتمال بعيد، لكن بعض المعلقين من مثل الصحافي الناصري عبد الله السنّاوي تحدثوا لقناة «أون تي في» المصرية بأن هناك ضغوطاً وإغراءات من دول عربية مهمة بأن يتم العفو عن مبارك وعائلته لقاء تقديم معونات اقتصادية تقيل عثرة البلاد، وهو قول لا يمكن الإعتداد به، خصوصاً أن قائله لم يقدم أدلة أو وثائق تسنده.