القاريء العزيز.. شاءت الظروف الطيبة أن اكون ضمن مجموعة من الأصدقاء في جلسة إلفةً ومحبةً كان موضوع الحديث عن العلاقة الطيبة الجميلة التي تجمع أهل البيت الواحد ببعضها البعض علاقة مبنية على المحبة والإحترام المتبادل في المقام الأول الصَّغير يوقر الكبير ويجله والكبير يحنو على الصغير ويقوم بارشاده باهتمام بالغ بل وفي كثير من الأحيان يشاركه في اللعب ويقوم بتشجيعه عندما يراه منافساً لأترابه في أي منشط من مناشط الرياضة بل ويشجعه ايضاً على اللعب مع أقرانه مما ينمي فيه روح المشاركة الجماعية والتعاون، بل ويجعل منه شخصية اجتماعية لها حضور مميز. كنا نتحدث في هذا اللقاء الشيق وكل منا أعطى رأيه الإيجابي السليم إلا واحداً ظل شارد الذهن بل وفي حالة من التوحد العجيب رغم شخصيته المرحة الودودة طلبنا منه المشاركة بالرأي في هذا الموضوع وأن يدلي فيه بصراحة تلكم بعد أن أخذ نفساً عميقاً ثم قال: كلامكم جميل وهادف ولكنه فتح في صدري جرحاً قديماً وذكريات اليمة كنت أمني النفس ان اجعلها مقبورة منسية بل وأحاول دائماً ان أعيش طفولتي بأثر رجعي واسعى جاهداً ان أضيف إليها بعض المذاقات الجميلة المفرحة ربما إسترجع قليلاً مما حرمت منه في مراحل طفولتي إذ أن كل مرحلة من مراحل الطفولة لها عطرها المميز بداية اللعب بالطين وبناء المنازل الصغيرة واللهو على المراجيح والتي كانت تسمى «الطوطحانية» ثم تأتي بعدها مرحلة كورة الشراب، ثم كورة الكفر وتأجير العجلات بالساعة وذلك لمن لم يكن في استطاعته اقتناء واحدة منها، كان تأجيرها لا يتجاوز القرشين مع إمكانية السماح بتسليمها لصاحبها في صباح اليوم الثاني، ولا أنسى ما استمع اليه وأنا في حسرة بما يحكيه زملاؤنا في المدرسة عن اللعب الممتع على ضوء القمر «وشليل وهودنة» سعيت أن أقتني حيواناً أليفاً يؤنس وحدتي فقامت الدنيا ولم تقعد، الكديس بسبب الحساسية والكلب نجس ويجلب النحس في المنزل نظريات ونظريات تتجدد أساليبها بمبررات عقيمة، كلما حاولت حماية طفولتي لكي أعيش كما يعيش من هم في عمري، أصبحت مشلول الإرادة، مشتت الفكر، ضعيف أمام جبروت التسلط والقهر استسلمت لحياة الصمت، عشقت الوحدة والسباحة بخيالي، وأنوم على أحلام أوهامي، حقاً ان الحياة محطات ومحطات يمر بها الانسان أما أنا والحمد لله كانت محطتي واحدة وقطاري لم يتحرك، فقد أصابت عجلاته الصدأ وتوقف عن السير تماماً.. دعوني أحكي لكم ما كان يحدث أيام طفولتي الغضة، ومرحلة صباي، اللهم أبعد عني الحسد ثم أعدل عن جلسته، وكأنه متحدث في مرافعة قضائية. قال كثيراً ما كنت أسمع الناس يتحدثون عن الإرهاب وفي نشرات الأخبار أحداث عن الإرهاب، وكذك القنوات الفضائية تزخر بتلك المنوعات الخطيرة. والغريب كانت تلك الأخبار لا تدهشني بل ولا أعيرها أي إنتباه ولا تحرك فيَّ ساكناً، وذلك لأنني أعلم الكثير عن الإرهاب مما جعله شيء عادي لأن دارنا العامرة كانت عامرة بهذا التخصص الرهيب والذي أصبح معمولاً به عالمياً. «الظلم إرهاب والضيم والقهر الداخلي اسوأ أنواع الإرهاب والتهديد شيء كريه» كانت في دارنا أداة معينة للإرهاب وهي العصاة الرفيعة والتي تسمى «البسطونة» كانت موزعة توزيعاً هندسياً رائعاً، بسطونة من وراء باب الشارع وواحدة من الداخل، والاخرى في نصف الحوش، وكذلك بسطونة في كل ركن من أركان المنزل حتى يسهل استعمالها سريعاً سريعاً في وقتها، وحتى لا يضيع الزمن في البحث عن شيء آخر ربما يكون حاداً وحتى يضمن أجره فوراً أما المطرق فهو شيء آخر ربما يكون ايضاً أداة تخويف ولكنه اقل قساوة. يقال ان المطرق من أشجار السلم المعروفة والتي قيل عنها عن لسان من يحسنون الحفاظ على المعلومة من الجدود والحبوبات ان المطرق كان يسمى (بالذاكر) يستخدمه العلم بالطرق الخفيف على الطربيزة التي أمامه للتركيز والانتباه والتذكر، ويقال ان شجر السلم لا تسكنه الشياطين ربما يكون الكلام صحيحاً والله اعلم لأن المطرق أقل قسوة من البسطونة وبه شيئاً من الحِنية اما ساعة الطعام فلها بسطونة متوسطة الطول مرابضة بهدوء شديد، ولكنها تلسع كالعقرب تماماً ، هذا إن أخطأت في غسل اليدين جيداً أو اكلت باليد اليسرى أو إمتدت يدك نحو الطعام قبل من هو اكبر منك سناً، واما ساعة شاي العصرية فلها قواعد ونظم وآداب خاصة وهي ان لا ترتشف الشاي بصوت عالٍ أو حتى مسموعاً والا كانت البسطونة العقربة لك بالمرصاد والتي يمكن ان تجعلك ترى نجوم النهار بوضوح تام المهم تشرب كباية موية النار حتى آخر قطرة ولا تترك شيئاً باقياً لان ذلك يدخل في بند التبذير و المبذرين أخوان الشياطين. كانت بالمنزل قواعد غريبة وشاذة منها أن تكون حريصاً ان لا يتم ضبطك متلبساً بجريمة السعادة والفرح ويا ويلك وسواد ليلك ان قُبِّض عليك وأنت تلعب في ساعة عصرية مع أترابك في الشارع. ضاعت طفولتي وتمزقت الى اشلاء صغيرة يصعب تجميعها مرةً اخرى. حاولت ان أعوض شيئاً يسيراً منها وهو اللعب مع أبنائي الصغار، ألعب معهم في الطين وفي التراب والتراشق بالماء وهم في سعادة تامة ولكن في كثير من الأحيان أراهم يبتعدون عني ليلحقوا بمن هم في سنهم الصغير وكأن لسان حالهم يقول «انه عالمنا» أصبحت في كثير من الأحيان أميل إلى التوحد واسرح بخيالي بعيداً بعيداً وأسعد بالنظر إليهم وهم يلعبون ويمرحون ويضحكون حقاً انه عالمهم الصغير بل وجنتهم الصغيرة. ولكن أين عالمي؟ مازلت أبحث عن شيء ثمين ضاع مني تاركاً فراغاً كبيراً في نفسي العطشى. الماضي لن يعود يقولون ليت الشباب يعود يوماً وانا أقول ليت الطفولة تعود يوماً وهل من عودة؟ إنه المستحيل بعينه. صمت صديقنا ومحدثنا طويلاً وكأنه يريد ان يسترجع كلمات تاهت عنه بعدها قال الحمد لله ان البسطونة والمطرقة قد إختفيا وانتهى عملهم السابق ولكن البسطونة ظهرت في لون جديد واصبحت تحمل من باب الوجاهة مع الاحتفاظ بعملها السابق ولكن مع الدواب المغلوب على أمرهم وارجو ان يأتي اليوم الذي يلغي تماماً التعامل بها مع الحيوان المسكين، الذي لا يعرف التذمر والشكوى مثلي تماماً عندما كنت صغيراً. تفارقنا ونحن في حالة حزن وأسى على تلك البراعم الصغيرة التي ذبحت طفولتها بنظريات باهتة.