ونحن صغار في المراحل الأولية من التعليم، هناك أشياء تبقى محفورة في خواطرنا وفي عمق الذاكرة.. ومازلت أذكر جيداً تفاصيل تلك اللافتة الصغيرة التي وضعها صاحب دكان الحي الذي تقطن فيه، وهو بالطبع يماني الجنسية، فقد كانت ستينيات القرن الماضي «تعج» بأخوتنا اليمين في التجارة الاستهلاكية في وسط الأحياء... حتى أطلقت عليهم المقولة المشهورة «دكان ناصية وقدرة فول».. وذلك لاستجلاب الزبائن في دائرته، وتلك صورة استثمارية ناجحة استفاد منها هؤلاء القوم في تلك الفترة الاقتصادية الجيدة. أقول تلك اللافتة التي وضعها عم عماري اليماني في مكان بارز في «حانوته» وبخط فارسي تحتوي على جملة رفيعة، شفيفة، عميقة، بل هي مدرسة قائمة في الحياة، وأجزم بأنها أثرت في نفسي، وأعطتني بعداً في حياتي فاتخذتها منهجاً ومبدأً وأسلوباً في معاملاتي طوال مسيرة حياتي.. والجملة تقول: «كل شيء إذا كثر رخص إلا الأدب» فكنت دائماً من الذين يترددون على دكان اليماني صباحاً وعصراً وعند المغيب.. فيقع نظري عليها فتدور في مخيلتي فأقولها وبصوت عالٍ بين رصفائي «كل شيء».. تشبعت منها فشبت معي، أو امتثلت على واجباتها في دواخلي، فأخذتني إلى مسلك الرشد والإعتدال في كثير من المواقف، وزادني عليها حكاية أخرى استمعت اليها من شيخ ورع لا أذكر أسمه الآن، فقد طالت المدة وأصبحت بعداً وآباد، إلا أن صوت ذلك الشيخ وتقاطيع وجهه النائر وعينيه المكحلتين «بالكحل الأخضر» وعطره الهادئ المعلق في هندامه، الذي كلما نفذ في شخص تذكرت هذا الشيخ النادر خلقاً وأخلاقاً وتديناً.. روى لنا ذلك الشيخ.. أن الإمام الشافعي رضي الله عنه يتمتع بقدر واسع من الحلم والتأدب عند لحظات الغضب.. ويحسب أن الغضب في حياة الإمام حالة غير متوفرة في حياته.. لأنه موسوعة من الأدب الفطري الذي حباه الله به وغسله ورضعه بالحكمة.. يقول الشيخ إن أحد المقربين من الإمام الشافعي قال: للجماعة أريد أن أخرج الإمام الشافعي من طوره.. فذهب هذا الرجل إلى خياط المدينة الذي يحيك الملابس.. فقال للخياط أريدك أن تحيك أو تقص لي جلباباً بهذا المقاس- أي بمقاس الإمام الشافعي- شريطة أن يكون «كم» اليد اليمنى قصيراً جداً «وكم» اليد اليسرى طويلاً، فوافق الخياط وأعد الجلباب بما طلب منه.. فذهب ذلك الرجل يهديه إلى الإمام الشافعي، وهو في حالة ترغب شديد لما يسفر من الإمام! فتعالوا لنشاهد تلك اللحظات الدرامية الجاذبة.. تسلم أو قبل الإمام الهدية، وعندما شرع في لبس ذلك الجلباب توقف برهة.. ثم قال لقد فعل الحياك خيراً وأصاب فكم اليد اليمنى كان دائماً ما يشغلني في التدوين، واليد اليسرى أجادها بالطول لتغطي لي تلك الصفحات من الكتب.. فالإمام بالذكاء الحاد معلوم بالحفظ السريع، فالتفت الرجل إلى الجماعة وهم في حالة اندهاش تصحبه قناعات كاملة بأنها درس في صنوف الحكمة والأدب الرفيع.. لأنهم أرادوا أن يثيروا الإمام فكانت درساً بليغاً لهم. اللهم زدنا من أدب وحكمة وتواضع سلفنا الصالح، وأحرم عنا فتن الدهر وجهالة المتربصين لثورة النفوس، وخلق أجواء تدعو للافتعالات والغضب.. وأعرف من هم يعيشون في أجواء الافتعالات بغرض الضحك السالب أو المقصود.. والمسائل في هذا الخصوص تشعبت وأخذت حيزاً في مجتمعنا بدليل أن هناك قرارات قد تأتي لحظة انفعال وعندما يعود صاحبها إلى نفسه، يتأسف ويتحسر ويتألم ويصاب بالندم، خاصة ما بين الزوجين.. وما بين الأخوين.. والأصدقاء وزملاء العمل وحتى في المجتمع السياسي والتنفيذي قد تأتي قرارات مفاجئة بدون روية أو تمحيص، فيصعب حلها فتكون محسوبة على تلك الجهة.. والأقلام الصحفية التي تكتب من مواقف «خاصة» وتريد أن تضع حداً يجب عليها أن تتوخى الحذر في التناول، وألا تذهب بعيداً في نقدها «للأشخاص» فالإنسان ليس معصوماً من الخطأ.. ولكن المصيبة الكبرى التعدي والتجاوز لمسائل قد تصيب الأسر، وتلك هي المصيبة الكبرى والأثم الأكبر.. وتلك خصلة أراها كثيراً وبمفردات قاسية والمؤسف أنهم يحسبونها درباً من دروب الشجاعة.. بينما هي حالة تدعو للتأخر في معطيات العمل أياً كان.. بل يترتب عليها إفساداً في المعاملات وتعريفاً للحقد البائن والمنسد في دائرة التحدي المعلن أو غير المعلن..!. أقول.. التوجه النقدي بأدب المعرفة والتحصيل هو من سمات الأخيار في مجتمع مسلم ومحب.. فالأدب والنظافة هي رسالة الإنسان في الحياة أما إظهار القدرة على نزف الحروف لانتهاك العروض، وإظهار العضلات الفكرية هي، بلا شك ثقب يتسع رويداً.. رويداً.. ويخلف التنافر، مما يجعلنا عرضة للانزلاق ومن ثم الضياع الكامل.. فالقلم قيمة تفتح الآفاق الرحبة وتخرج المجتمع من دائرة الجهل والذل والافتقار.. فإن حظيت بمعايير الحكمة والتأدب قطعاً نكون قد وصلنا إلى مرافئ الأمان، وذهبنا كثيراً إلى منطقة التشريف الديني والدنيوي. كل الذي أنشده المصداقية في التناول والحكمة، وجذوة التأدب الفطري، إشارة تكسبنا أحترام أنفسنا، ومن ثم احترام الجميع في مجتمع ينذر بإشتعال المواقف، وأحسب جيداً أن العولمة في علم الاتصال اقتران واضح يفضي إلى الفتنة، ووضع السم في الدسم، وإذا لم نتعامل بحنكة وحكمة وأدب رفيع سنكون عرضة للخصومة والتنافر.. فهناك من يجيدون فن التعامل في علم الافتتان عبر مسميات كاذبة ومضللة وبعيدة جداً جداً عن الواقع. تعلموا من سلفنا.. من أهلنا من أجدادنا.. من واقعنا كيف يكون الإنسان أميناً مع نفسه ومع الآخرين.. كيف يكون صادقاً مع نفسه ومع الآخرين.. وكيف يكون حكيماً نظيفاً ومؤدباً مع نفسه لنشهد مجتمعاً رائعاً في كل فصول الحياة. عضو اتحاد الصحفيين السودانين