من طرائف التاريخ السياسي السوداني الحديث تلك الصرخة التي أطلقتها ألسنة بعض السياسيين ، التشريعية والتنفيذية- أيام(السودان)-عندما كانت البلاد تتهيأ لتسليم مقاليدها لبعض أبنائها، ممن كانوا يعرفون برجال الصف الثاني، والذين تصادف أن معظمهم كانوا من النوبيين القادمين من الشمال البعيد.. يحملون البلح و(الكابيده)، مثلما حمل أباؤهم (الكُمشة) في مطابخ القصور والسرايات، في مصر والسودان. الزعيم الراحل محمد أحمد محجوب - القاضي والسياسي والشاعر والمهندس والمحامي والدبلوماسي المتحدث البارع- كان في قلب الحوار و(كان جدلاً ساخناً، ولكنه كان راقياً..) لم تنحدر أدواته إلى السفاسف والصغائر، ولم تنقطع(شعرة معاوية) بين أطرافه، ولم تندلع بينهم الخصومات والحروب، ولم يحمل أحد منهم السلاح ويدخل الغابة أو الصحراء. والحق أن الرعيل الأول من رواد تاريخنا المعاصر كان فيلقاً مجاهداً إرتضى أن يتصدى لمتطلبات مرحلة جديدة، بدأت بتحضيرات ما قبل الجلاء، ومرت بإرهاصات التحرر الوطني، وإنتهت بتحديات الإنطلاقة التعميرية التي كانت تعتمل في قلوب السودانيين جميعاً. ويفيض تاريخ السودان الحديث بومضات لامعة لشخصيات فذة لعبت أدواراً هامة لم ترصدها أقلام المؤرخين، وتنبثق من قلب وهج الشعاع كوكبة من الأبناء البررة الذين رحلوا عن هذا العالم، مخلفين وراءهم بصمات غائرات، لا تزال نحتفظ بآثارها في خضم إيقاع الحياة(حتى بعد رحيلهم عنها). بعضهم برز في ميدان السياسة، وكثيرون نبغوا في فنون الإدارة بدواوين الحكومة، فكان الوزراء والخطباء والمحافظون ووكلاء الوزارات ومديرو المصالح وكبار(الأفندية). كان جيلاً عملاقاً ذلك الذي أمسك الشمس بيديه، محققاً حرية البلاد، ومتصدياً لتحديات ما بعد (الخواجات) وهو جيل متفرد، تدافع أبناؤه يفيضون حماساً دافقاً، وقد استقرت في وجدانهم فكرة الوطنية الحقه.. فتولوا قيادة السفينة في ثقة واقتدار.. ومع ذلك ظلمهم التاريخ وتجاهلتهم(الكرنفالات). وبالرغم من أن بعض الأوفياء قد كتبوا عن بعض وقائع الاستقلال، وأيام (السودنة) إلا أن قليليين فقط هم الذين أشاروا إلى الأدوار الشخصية التي لعبها بعض أبناء السودان ممن لم يكن لهم باع في أجهزة الإعلام، فقضوا حياتهم بعيداً عن الأضواء، وظلوا يعملون في صمت وإنزواء .. وذهبوا بعد أن أرسو- في دواوين الحكومة ومكاتبها، وفي ميادين السياسة ودهاليزها.. تقاليد راسخة.. وتركوا أريجاً طيباً في سجل الخدمة، وفي حسن السيرة، وحلو المعاشرة. وقبل أن يمضوا إلى ذمة التاريخ ، سطروا في كتاب التاريخ صفحات ناصعات .. لا تزال الأجيال المخضرمة تتناقلها : حين تتذكر كيف كانت الخدمة المدنية في السودان، وكيف كانت الممارسة السياسية وتعاطي العمل العام.. يوم كانت مساحات العمل العام معابد يقوم فيها رجال لم تلههم تجارة أو بيع، ولم يكن همَّهم (بناء الذات) ولا تشييد العمارات، ولا تحقيق الطموحات الشخصية الضيقة. تجاوزت الصرخة كل ذلك، وألمحت إلى أن أبناء الطباخين و(السفرجية) و(المرمطونات) قد بنوا مراكز القيادة.. ولكن هؤلاء لم يغضبوا ولم يثوروا.. بل واجهوا الموقف بروح رياضية، ضاربين المثل الرائع في تلبية نداء الوطن، وفي التجرد ونكران الذات، وفي أداء الواجب .. حتى الموت. الزعيم(محمد نور الدين): بلكنته النوبية الساخرة، وبدعواته الصريحة إلى(الإندماج) مع مصر و (الرَّاحل) إبراهيم أحمد بنبوغه الهندسي الذي تعامل به مع السياسة والاقتصاد وهو «يصوغ» أول ميزانية تحمل الجنسية السودانية. داؤد عبد اللطيف: بعبقريته الإدارية وبذكائه النادر، وبكنتته السياسية اللاذاعة، ومواقفه الشهيرة في ساحات القضاء الإداري الدكتور محمد أحمد علي، الوزير الإنسان، الذي لم ينسيه كرسي الوزارة أنه طبيب يحمل في أعماقه قلباً يفيض بأقصى درجات التعاطف البشري مع المريض(كيف كان دينه ولونه وجنسه وإنتماؤه الإجتماعي.) وتداخلت الأجيال، فكان صالح محمود إسماعيل، ومحمد خليل بتيك، وسليمان حسين، وميرغني محجوب، وجمال محمد أحمد، ودهب عبد الجابر.. ولحق بهم صالح محمد طاهر ومحمد توفيق أحمد.. وآخرون كثيرون، منهم من قضى نحبه.. ومنهم من ينتظر وما بدَّلوا تبديلا.