عبد المنعم محمد علي- الدوحة لابد أنه محض مصادفة أن يكتب محجوب بابا في سودانايل وغيره من وسائط الإنترنت قبل شهرين حول بعض قضايا حلفا فتطيش سهامه عن الهدف وتضرب وطنه الصغير في القلب، وهو الذي لم يتوقف نزفه منذ خمسين سنة. ويكتب أحمد دهب هنا قبل أيام على خطى محجوب مستعيراً ذات خطابه الذي ينضح بدعاوى الجهوية ومفارقة الموضوعية والمنطق والخوض في الشأن الحلفاوي العام وفي تشخيص الداء والدواء من فرضية تقسّم حلفا إلى سفلة وعليّة، وأهل حضارة وأهل حجر متحجرين، وقرى تنشر النور والمدنية وأخرى تخرّج الانتهازيين ومستجدّي النعمة المتطاولين في البنيان بالمال الحرام. أقول إنه محض مصادفة لأنني لا أعرف، ولا أصدق، أن حلفا التي كانت في صدارة حركة الاستنارة في السودان تتيح اليوم انعقاد تواطؤ على أرضية تفارق روح التنوير وتناقض أسس الموضوعية التي غرسها التعليم الحديث في عقول الأجيال الحاضرة. وأحيل القارئ غير الملمّ بالقضية الراهنة التي أثارت كتابات الأخوين أحمد دهب ومحجوب إلى مصادر الصحافة السودانية التي تناولت قضية توكيل الغاز التي حرّكت مجموعة من عشيرة أحد رجال الأعمال بالقرية 21 للاعتداء على منزل مسئول سابق في حلفاالجديدة متهم بحرمان الأول من توكيل مستحق ومنحه لآخر غير مستحق من أهل المسئول السابق، وتم اعتقال بعض المعتدين ووضعهم في الحراسة، ثم حدث احتكاك بين المحتجين والشرطة أصيب فيها نفر من الطرفين. ورفعت القضية لاحقاً لجهات الاختصاص في شكوى ضد المسئول السياسي المحلي. ولكن القضية في مجملها وأحسن أحوالها لا تعدو أن تكون قضية شخصية تتعلق بطرفيها فقط، أو صراعاً على المصالح بين بعض رجال الأعمال بعلاقة وثيقة مع السلطات التنفيذية/ السياسية المحلية. لقد كان بإمكان الناشطين في الحركة المطلبية ومن السياسيين المعارضين من أبناء المنطقة وخارجها استغلال القضية بوضعها في إطار مطلبي وسياسي صحيح. فقد شهدنا كيف أن الاحتجاج العنيف للبوعزيزي في الريف التونسي ألهب فتيل الثورة بطول البلاد، وانتقلت الشعلة للمنطقة العربية بأسرها ورشحت على نطاق العالم حتى شارع الوول ستريت في نيويورك. كان الجميع سيتفهم لو حوّل الناشطون قضية وكالة الغاز في حلفاالجديدة إلى شعيلة لإحداث ثورة على نمط انتفاضات الربيع العربي. ولكن بدلاً من ذلك، وضع الصديق محجوب بابا، وبعده الأخ أحمد دهب، القضية في إطار أقل ما يقال عنه أنه بائس أشد البؤس، لأنهما أحالا القضية للأسف إلى سلاح للاستعلاء العرقي الجهوي يشهره بعض أبناء حلفا في وجه بعض آخرين من أبنائها. وبدلاً من التعاطي مع القضايا المزمنة الملازمة لتاريخنا منذ الهجرة النوبية في سياقها الموضوعي بوصفها قضايا شعب واحد منكوب، يتصدى بعض المثقفين من أبنائنا بخطاب يعيدنا نصف قرن للوراء، باجترار أمجاد تاريخية وإحياء دعاوى الجاهلية الأولى بنفس منطقها في الهجاء والمديح. وأحيل هنا القراء للمقدمة التي كتبها الأخ أحمد دهب في موضوعه "الانتهازيون في حلفاالجديدة" يصف قرية دغيم القديمة فيقول أنها "قرية تتكئ على جدار من النغم الحنون ثم تصحو وتنوم على وسادات من الفرح الجميل". أما قرى 20 و26 و24 "فكانت تقع قبل الرحيل في منطقة أرض الحجر حيث لا تمتلك هذه المنطقة أي نوع من أنواع الجمال لأنها كانت تنوم على سفوح الجبال". وإذا تركنا الحقائق الجغرافية المغلوطة جانباً في هذه الأهزوجة "المدحية الهجائية" ذات الوشائج البيّنة بالعصر المملوكي، كيف تصلح هذه المقدمة في تفسير المشكلات التي تعاني منها حلفا (بواديها وجديدها). وما شأن جمال دغيم وقبح أرض الحجر، وإسهام ذاك الجمال أو القبح الغابرين، بالحلول التي ينتظرها أهلنا المكتوون بنار الهجرة والفقر والشتات؟ أما الجزء الأكثر فجاجة والأشد مفارقة للواقع والموضوعية من مقال الأستاذ أحمد دهب، ومن ثم الأشد إثارة للإحن والضغائن، فهو زعمه أنه كان هناك "فاصل من الجدار الحديدي" بين قرية دغيم وقرى أرض الحجارة قوامه الحضارة والثقافة العصرية من جهة، والافتقار لكل ما هو حضاري وعصري من جهة أخرى، ومنطقة "أنجبت أفذاذ الرجال" وأخرى "خلت من كل معاني التضحية والإيثار" ولا تعرف إلا زراعة "القمشة" (نوع من التبغ يستخدم للتدخين). ثم الزعم بأن "الصراع بين الجانبين كان حامياً لأنه اشتعل بين ظالم ومظلوم". فهذه المعزوفة الهجائية الزاخرة بالمبالغات التي تنطوي عليها أشعار الهجاء والمديح، إن كانت تصلح للتراشق بين البسطاء من أهالي القرى من باب الدعابة الخشنة، فإنها قطعاً لا تصلح للتضمين في مقال رصين يتناول الشأن العام بالتحليل والنقد. فقطعاً، لكل من يعرف تاريخ حلفا، لم يكن هناك جدار فاصل بهذه السماكة بين القرى الحلفاوية قبل الهجرة ولا بعدها، بسبب تداخل القرى والتصاهر والتماثل النسبي في مستوى الحياة، واشتراك الآباء والأجداد من أسوان في النوبة المصرية إلى دنقلا في الهجرة إلى مصر (في المقام الأول) والعمل في المهن التي عرفها التاريخ النوبي خلال القرن الماضي (بوابين وخفراء وسفرجية وخدم بيوت). وإذا سبق مركز حلفا القرى النائية في التعليم وشغل المناصب، فإن أبناء هذه القرى استعاضوا جزئياً عن مزية المركز بتعليم أبنائهم في مصر، فشهدنا جيلاً من الأطباء والمحامين والشعراء يتوزعون من فرص وسرة ودبيرة في الشمال إلى الجنوب في جمي وصرص وعكاشة (القرى التي كان يطلق عليها اسم أرض الحجر). ثم لم يكن هناك (ولا استجد الآن) صراع من أي نوع بين قرى حلفا. والرموز التي تفخر بها حلفا سواء كانوا من دغيم أو أرقين أو سرة أو صرص فهم مصدر فخر للنوبيين جميعاً (مع اعتراف الجميع بأن جل الرعيل الأول من رموزنا على كافة الأصعدة كانوا من المركز وقلبها النابض دغيم). أما الاستقواء بالسلطة السياسية في الماضي أو الحاضر فهو كان ولا زال متاحاً للجميع بدرجات متساوية، ويشهد الواقع السياسي اليوم في حلفا معارضين وموالين للحكومة من كافة مناطق حلفا، وهو قطعاً لا يخضع لمنطق جهوي بأي حال إلا في عقول من يريدون تصويره على هذا النحو قسراً. وهو نفس المنطق الذي تحدث اتبعه الصديق محجوب بابا حين اختزل مشكلة حلفا في أنها تعود إلى أنها "في غفلة آخر الزمان وضياع العدالة والمنطق والعقل، قد انحدرت (أي حلفا) إلى دنيا الحفاة العراة، الحجر الحجريين"، في إشارة إلى تسنّم عدد من أبناء المنطقة التي كانت تعرف بأرض الحجر في وادي حلفا مواقع المسئولية على مستوى الولاية والمحليات. فكيف لعقل استنار بالعلم أن يوافق هذا المنطق الذي يرى أن منطقة بعينها في حلفا "تفرّخ" المسئولين الفاسدين لأنها كانت "تنوم على سفوح الجبال" أو لأنهم من نسل "الحفاة العراة، الحجريين". وما هو متوقع الآن كرد فعل لمقال الأخ أحمد دهب، أن ينبري العديد من أبناء القرى التي طالها "هجاء" الأستاذ أحمد دهب بالدفاع عن منطقتهم والهجوم المضاد على منطقته، تماماً كما حدث إثر نشر الصديق محجوب بابا لمقاليه في تاريخ سابق. ما كان أجدر بالشباب المتعلم النابه من أبناء حلفا أن يجلسوا سوياً للنظر في المشكلات التي تحيق ببلدهم وتهدد بالزوال والانمحاء تاريخهم ولغتهم وتراثهم النوبي، والتحاور بشأنها بعقول مفتوحة وقلوب تسع الجميع، مسلحين بنور العلم الذي اكتسبوه قبل غيرهم من أبناء الوطن بتضحيات الآباء الذين عملوا بوابين وطباخين وخدماً في بيوت باشوات مصر أو جمّالين امتهنوا بيع القمشة أو مهربين خاطروا بأرواحهم في تجارة "التفليتة". أما كان في ذلك الخير لحلفا وإنسانها، بدلاً من التراشق بين أبنائها وأحيائها وعشائرها بمفردات الجاهلية الأولى وإشعال الحروب الحمقاء داخل البيت النوبي الواحد!