ويمرض شعيب مرض الموت ويهذي في حمّى منامه أن يعيد الله جزءاً كان من وطنه قدره ثلث بلاده أرضاً، وربعها شعباً، يراه قد مضى إلى المجهول تحت علم آخر ونشيد آخر وعملة أخرى وأورثه (خريطة) جديدة لوطنه الثاني بدت من فرط قبحها كالثوب المهترئ، كما قال الإسلاموي الغيور د. الجزولي دفع الله. بينما هناك آخرون تمنى (شعيب) أن يصاب بالعمى قبل أن يراهم ينحرون الذبائح في شوارع الخرطوم ابتهاجاً بالتخلص من (شقيق) قالوا بأنه (مشاغب). وآخر القول وليس أخيره أن تدهم الحيرة شعيباً وهو في حيرة حري بأن لا تجد بلاده حلاً لمشكلاتها المعضلة إلا خارج حدودها: في أبوجا .. وأنجمينا وأديس أبابا .. والقاهرة .. وجيبوتي وقطر والرياض .. وكينيا وأسمره ونيورك.. ولندن . وكأن الخرطوم الجميلة والكريمة حيزبون عاقر وعقور ومجدبة ونَفُورْ. من أين ل(شعيب) أن يتعافى يا أيادي الله، هل بعد هذا الكم من السقم الطويل والمرض الوبيل والأسى المزمن الذي رزء به شعب السودان من بعد عامين فقط على استقلاله، أين له بعد كل هذا الاعتلال والسقم الوبال أن تغشاه العافية ، ومن أين ل(لشعيب) أن يتعافى من كل هذه الأمراض والرزايا؟ والحق ما قالته جدتي يوماً: (من وين يا وليدي تجي العافية والوجع في الرويس (11). (شعيب) يمرض مرض الموت ولكنه لا يموت ...وما أن يعلن خبر موته حتى تتسابق الأخبار المتضاربة نافية ذلك، مؤكدة إنه لا يزال على قيد الحياة (12). و ..ما شاهدت الخرطوم تضارباً متناقضاً في خبر ما كما شهدت تضارباً وتناقضاً في خبر موته.. (13). ...وكأن الدنيا في السودان تحولت وانقسمت إلى فريقين متنافسين ومتصارعين أحدهما يعمل على وفاته والآخر يعمل على بقاءه حياً (14). نعم.. تهب الانتفاضة الشعبية فتعيد إلى (شعيب) بعض العافية صوب الحياة.. وتنقض الانقلابات العسكرية، أو الأحزاب السياسية التي تحلق بجناحين أحدهما: الزعامة الروحية والإمامة.. والآخر كراسي البرلمان المستدامة.. وهي صفوة أدمنت البقاء والفشل. لقد شخّص (د. يونس) مرض (شعيب)، ووضع إصبعه على الجرح، إذ يقول الطبيب (يونس) عن شعيب: ...جمعنا نحن الشباب وأخذ يحدثنا عن أخطاء أحزابنا... وقال لنا شيئاً غريباً رغم أنها مولود غير شرعي للحكم الاستعماري الثنائي... أحزاب إتحادية وأحزاب فراغاً مع شيء عظيم من ذاته.. وهذا الشيء بدأ يكبر فينا فأصبح هو الوطن نفسه.. (17). (يونس) الطبيب الذي أجبره الجبروت لمغادرة البلاد إلى لندن، وهناك في بلاد الإنجليز تفتحت مواهبه التي كانت مقموعة بسبب الراتب الهزيل، والإمكانيات الفقيرة.. والمناخ السياسي والفكري الضاغط.. أُتيح له الإبداع فتدفقت مواهبه وصار نطاسياً مرموقاً يشار له بالبنان المخضّب وبالبنان خير المخضّب. الصدفة البحتة قاربت بين (يونس) و(معروف) وذلك عندما حطت طائرتهما في مطار أدنبره وعرف كل منهما الآخر لا لأنهما وبالصدفة جلسا متجاورين، ولكن ولحكمة لا يعرفها إلا الله فإن السودانيين في الخارج ينجذبون إلى بعضهم البعض وكأن ثمة مغناطيس هائل يقبع في حناياهم. عرف كل منهما قصة الآخر وعرفا أن الجبروت الذي أجبرهما على الرحيل واحد، والأكثر دهشة أن يكتشف (معروف) أن (يونس) من أقرباء (شعيب)، ويفيض يونس بالقول مجيباً على سؤال (معروف) السائل عن درجة القرابة، إذ يقول: لا أعرف درجة قرابته بالضبط.. قد تكون بعيدة إلى حد ما، ولكني لا أحس بأي بعد في علاقته بي وبأبي وأمي.. والأقربين من أسرتي.. فهو كأنه واحد منهم بل هو أستاذي في الحياة.. (18). ومن لهجة معروف يحس (يونس) بأنه يعرف (شعيب) فيؤكد (معروف) ل(يونس).. ...بل هو أكثر من معرفة: إنه عندي الوطن كله.. مدنه وقراه وأهله بكل ما فيهم من خير وطيبة وحنان.. إنه أستاذي وصديقي ومنقذي عندما تكالبت عليّ البلايا.. (19). إن وحدة البلايا.. ووحدة المشاعر تحدد وحدة المطامح ووحدة المرامي بل ووحدة الأماني والمنايا. العودة يؤوب (معروف) وقراره بالأوبة جبروت آخر.. وقاهر كذات الجبروت الذي أجبره على الهجرة مساو له في القوة لتمكنه من الحظي باختيار (شعيب) لمرافقة (معروف) إلى سكناه في حي (السجانة) الشعبي وانكب (شعيب) في ترجمة الأعمال والمسرحيات التي شغل بها (معروف) الدنيا في أصقاع أوروبا الشمالية. (شعيب) يجد نفسه في روعة الإبداع لحظة كفيلة بإيقاظ روحه وصياغة التاريخ والدنيا الجديدة والمستقبل السعيد. وهكذا (شعيب) يمرض مرض الموت ولكنه لا يموت لأن الشرفاء من أبنائه يقهرون المستحيل للفجر الجديد الواعد.إن رواية (أزمنة الترحال والعودة) كرواية سودانية عمل جدير بالقراءة، ويقيني أن تناولها بالتحليل يحتاج إلى قدر من الصفحات تفوق صفحاتها عدداً إذا ما رمنا مقاصده السامية وأهدافه النبيلة. (1) الحسن محمد سعيد، رواية (أزمنة الترحال والعودة)، الطبعة الأولى، 2005، مركز عبادي للدراسات والنشر صنعاء اليمن. (2) (رجل أوربا المريض) تعبير أطلقه المحللون على تركيا ما قبل كمال أتاتورك ومنذ أفول الخلافة العثمانية. (3) الرواية ص ص7، 8. (4) هي الفترة التي عرفت في تاريخ السودان بالديموقراطية الثالثة. (5) (الحلقة الشريرة) تعريف أطلقه الراحل محمد إبراهيم نقد الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني، على هذه المتواليات. (6) د. حسن عبدالله الترابي أحد صناع انقلاب 1989م، قال: إننا استطعنا إخفاء هوية الانقلاب لعام ونصف وذلك في محاضرته أمام ندوة (الإسلاميون ونظام الحكم الديموقراطي التجارب والاتجاهات)، الدوحة قطر 6/10/2012م، فضائية الجزيرة مباشر. (7) أنظر الرواية ص6 (الإهداء). (8) نفسه، ص7. (9) صحيفة المجهر السودانية 20/11/2012 وفضائية (أم درمان) برنامج (صالة تحرير) صباح 21/11/2012. (10) قانون (الصالح العام) ابتدعته الانقلابات العسكرية، والذي بموجبه تم فصل عشرات الآلاف من الخدمة المدنية والعسكرية لأسباب سياسية. (11) الرويس: تصغير رأس باللهجة السودانية ومعناه: من أين تأتي يا ولدي العافية ما دام الوجع في الرأس. (12) الرواية ص7. (13) نفسه ص7. (14) نفسه ص7. (15) نفسه ص147. (16) نفسه ص148. (17) الرواية ص148 (18) نفسه ص143 (19) نفسه ص143 (20) الرواية ص186 ومضاد له في الاتجاه.. لقد بلغه أن (شعيب) قد يكون مات. فقد جاءه صوت (يونس) عبر الهاتف باكياً؛ ومن صوت (يونس) المتهدج بدا له أن (شعيباً) قد مات، ولكن (يونس) يقول إن الأخبار تتناقض بشأن موته. إن موت (شعيب) كان يعني النهاية بالنسبة ل(معروف) ..كأنما يعيش له ومن أجله..!! لم يخطر موته على باله كأنه لا يخضع لناموس البشر.. (20). وهذا في حد ذاته في ذات (معروف) قاهر لا يقهر فلابد من السفر إلى الخرطوم للتيقن فإما موت مطلق وإما حياة دائبة. وفي الخرطوم، وبعد بحث قلق عثر (معروف) على (شعيب) مريضاً يعاني.. وكل المتيمين (بشعيب) من الشرفاء يسكنهم اليقين بأن موت (شعيب) يعني موتهم. نجح (معروف) في إقناع (شعيب)، وغمرته السعادة استقلالية.. وكلها نشأت على الاتكال والتمويل الخارجي، مصر من جانب، وانجلترا من جانب آخر.. وأصبحت السياسة كأنها تجارة.. لهذا وكما يزعم يتطلب الأمر إعادة نظر في هذا الإرث السياسي.. القضية قضية تربية وطنية.. فالوحدة نحو الاستقلال غير كافية... جاء الفشل من غياب المنهج والبرامج الاستراتيجية لما بعد الاستقلال (15)... وكانت القبيلة والطائفية في نظر (شعيب) هما المؤسستان الراسختان في المجتمع.. أما الوحدة ا لوطنية فغائبة تماماً.. وكان (شعيب) يرى أن الطريق إليها يحتاج لعمل كبير ومضن.. (16). ويواصل الطبيب يونس فيقول: ... دخل (شعيب) قلوبنا وصرنا ننتظر قدومه وتحدثه إلينا.. وعندما ودعنا وسافر إلى الخرطوم ترك فينا.