دوران الحلقة الشريرة وحلت بالبلاد عافية ديموقراطية قصيرة، ولكنها، وقبل أن تكمل عامها الرابع أنشبت ديكتاتورية عسكرية ثانية أنيابها في جسد الشعب المهزول وبقيادة العقيد جعفر محمد نميري وبإدارة ما عرف هذه المرة ب(مجلس قيادة الثورة)، وذلك في 25 مايو 1969م. وجاء هذا الانقلاب بقناع ديموقراطي، إذ شمل مجلسه العسكري ذو الخمسة عشر عضواً على ثلاثة ضباط من اليسار ومدني واحد كان قانونياً معروفاً. كما حوى مجلس وزرائه بعض المدنيين المشهود لهم بوطنيتهم وزاد ليعلن في (بيانه الأول) بأنه الثورة التصحيحية لثورة 21 أكتوبر العظيمة. استبشرت الجماهير وتنظيماتها، وخرجت غفيرة.. وغفورة للتأييد في موكب عارم عرف بموكب 2 يوليو 1969م، والذي ورد ذكره في الرواية في ثلاثة مواقع (أنظر الصفحات 38 و 49 و 63)، وغير المجايلين لتلك الفترة لاشك سيجهلون كنه ما تكنيه، وحقيقة ما أراده وأفصح عنه (معروف) في مقاله العلمي الرائع والذي جلب له المصائب والمتاعب والنقمة من أهل النظام مما أضطره لمغادرة البلاد حاملاً معه إيمانه برؤيته، وبحكمة (شُعَيْبِهِ) وآمال شعبه. ولكن ما أن حل العام 1971م حتى بدا وجه آخر للعسكرتاريا (يتجلى)، فأبعدت العناصر اليسارية والديموقراطية من (مجلس قيادة الثورة) ومن مجلس الوزراء قافزاً من اليسار الديموقراطي إلى اليمين المستبد. وحاول المطرودون العسكر استعادة المسار بانقلاب 19 يوليو 1971م، ولكنهم فشلوا إذ جاءوا بوجه يساري سافر إستعدى عليهم برجوازية (الشقيقة الكبرى) في الشمال. فسالت دماء كثيرة وأشرعت السجون أبوابها وأشرأبت المشانق، وبعدها ببضعة أعوام وضع الجنرال نميري عمامة الفقيه فوق (كاب) العسكر، وأصدر (قوانين الشريعة) فَقُطِعَتْ أعناق وأرزاق وبُترت أطراف وأعراف، وضاقت أراضي السودان الرحيبة بما رحبت، وبلغ السيل الزبى وبلغت الروح الحلقوم. وكانت انتفاضة مارس/أبريل 1985م التي أملت على الفريق (سوار الذهب) الإطاحة بنميري... وفعلها فاستولى الجيش على السلطة بقيادته، ولكنه كان معدناً كريماً كأسمه فسلّم السلطة للمدنيين بعد عام واحد كما وعد، منهياً بذلك فترة 16 عاماً من الحكم (المايوي). وحلت الحقبة الديموقراطية الثالثة 1986- 1989م، وهي فترة كسابقتيها ليست كسيحة تماماً ولكنها لا تخلو من عرج، إذ جاءت ذات الوجوه القديمة التي عرفها الناس منذ 1953م، وبكل إرثها ووارثيها. الحقبة 1986-1989م(4) وهذه الحقبة كانت رهينة الوأد المنتظر كسابقتيها، إذ عاجلها المرض المعروف بالحلقات الشريرة(5).. ديمقراطية فانقلاب، ثم ديمقراطية فانقلاب، وهو مرض لازم السودان المنكود الحظ وما استطاع منه فكاكاً بعد. فقبل نهاية العام الرابع لهذه الديموقراطية الكسيحة عزفت مرة أخرى المارشات العسكرية من جديد من راديو البلاد (أم درمان) معلنة الانقلاب العسكري الثالث في 29 يونيو 1989م، والذي هدت مدرعاته كُوخَ (شعيب) المنهوك، وطردت من سماء الكوخ أحلامه فلا ديموقراطية حلت ولا حرب خمدت ولا (شعيباً) تعافى. وخيّم تحت شموس السودان اللاهبة مدىً جديداً، فاق إخوانه السوابق مكوثاً وجلوساً وبزهم طوداً وعوداً، إذ أخفى هويته ونيته(6)، وأعلن في (بيانه الأول) أن حكمه سيكون سديداً، وبأسه شديداً، وضربه حديداً، ونهجه فريداً، إذ هو (للإنقاذ) و(للتوجه الحضاري). وبعد عام ونصف أعلن النظام بأنه يحكم باسم الجبهة القومية الإسلامية ونواتها جماعة الإخوان المسلمين ويطبق حكم الشريعة الإسلامية، فقاد حرباً (جهادية) ضد الجيش الشعبي والحركة الشعبية لتحرير السودان. وفي العام 1999م حدثت مفاصلة وفراق بين الحاكمين وبرز حزبي (المؤتمر الوطني)، و(المؤتمر الشعبي)، الأول يحكم والثاني عدو له مبين.وفي العام 2005م توصل (المؤتمر الوطني) إلى اتفاق مع (الحركة الشعبية لتحرير السودان) وهي الاتفاقية التي عُرفت باتفاقية (نيفاشا) في كينيا. والتي أسفرت عن انفصال جنوب السودان في يوليو 2011م. وتمدد (المرض الوبيل) واستدام الحزن الطويل بانفصال جزء عزيز من وطن كان واحداً لسنين عددا، وصارت خريطة البلد الأكبر في إفريقيا وطنان: (جمهورية السودان)، و(جمهورية جنوب السودان)، سودانان وحزن واحد، وشعبان و(شعيب) واحد. حزمة الأحزان الممرضة (لشعيب) السودان العسكرتاريا بطبيعتها في كل زمان ومكان، محاطة دوماً بحالة الطوارئ وشهر السلاح فاثخنت رجل إفريقيا المريض بالجراح، وصار يمسي مريضاً ليصبح في مرض جديد منذ العام 1958م. واستدامت أمراض (رجل إفريقيا المريض) واستدامت أحزانه؛ ولأن عسكره ظلوا في سدة الحكم ما يربوا على تسعة أعشار عمر استقلاله، ولأن أحزابه المدنية والطائفية لم تقصّر هي الأخرى في الإيذاء بحكم منهجها البابوي الوصائي الوراثي، لذا ظل (شعيب) أسيراً للعلة والسقم. ومع كل انقلاب تتراكم أحزان المسكين حزناً فوق حزن وشقاءً فوق شقاء، رغم أن كل أهل (شعيب) من العسكر يقولون ما أردنا (لشعيب) إلا كل الخير. وينهمر حزن الروائي والذي هو ضمير أمته في إهداء عمله لشعبه ولبلده والذي هو: (بلد التسامح والخاطر المجبور والثراء الذي يفوق المنظور)(7). ويقطر الخاطر المحزون أسىً عندما يتماهى فيهم إهدائه قائلاً: إلى طيور السودان المهاجرة، وعقول أبنائه التي ارتحلت في أزمنة الاضطرار إما لجبروت ظالم أو لقهر متربة أو لرعب مسغبة (8). بقوله هذا غرس الروائي السهم في كبد الحقيقة، لأنه من المحزن أن يكون السودان البلد الأغنى في إفريقيا هو من يعاني أغلب أهله من رقة الحال وروع الحروب، وفقد الدروب. و(شعيب) محزون الفؤاد، إذ يرى بضعة ملايين من أهله يهجرون السودان.. ويرومون المقام في بلاد لله، قريبة وبعيدة وتشقى عقولهم وسواعدهم لإسعاد أمم أخرى.ويحلم (شعيب) محزوناً أن يعود ولو خمسة آلاف فقط من أطباء بلاده من مهاجرهم ليكفو (شعيب) وشعبه غوائل (السحائي) و(الحمى الصفراء) و(البلهارسيا) و(الايدز) و(الملاريا).. وغيرها من علل الفواتك الحاصدة لبني وطنه. ويصحو (شعيب) مفجوعاً لعلمه من وسائل إعلامه بأن 750.000 مواطناً مؤهلاً قد هجروا السودان في العام الحالي 2012م، بحثاً عن رزق لم يُكتب لهم في بلادهم(9). ويغفو (شعيب) حالماً بإعادة الآلاف من حصدهم فصلاً من الخدمة (قانون الصالح العام)(10)، ويحلم بأن يجد ولو مليون خريج فقط وظيفة تسد رمقهم وتغريهم بالبقاء بالوطن. ومن أسباب مرض (شعيب) كابوس حلم يثقل فؤاده ولن يزول إلا بزوال ثلاثين ألفاً من القوات الدولية وطئت بلاده بمقتضى (الفصل السابع) وملحقاً بها عشرات القرارات من (م. الأمن(!!)) يئن تحت كلكلها ثلاثون مليوناً من أهل (شعيب).ومن ذُرى الحزن المجلل بالأسى أن يُكبّل أهل (شعيب) بقيد من خمسة وأربعين ملياراً من الدولارات لم يأكلوها بل أكلتهم حين إقتتلوا بها.ومن ذُرى حزن (شعيب) وأهله.. أنْ اقتتلوا لنيف وخمسين حولاً وبخسارة بليارية من النفوس والفلوس كانت كفيلة بأن تجعل الحاضر أفضل، وأن تجعل(الشهيد) حياً يشهد. ومما يوغل الحزن دهراً أن عروق(شعيب) لازالت تنزف في دارفور.. وكردفان.. والنيل الأزرق.. وأبيي، ولازالت معسكرات اللجوء والنزوح تنداح وتتمدد، وخيامها المقروحة الأحشاء تبتلع مئات الألوف من الشباب والشياب والأطفال والأرامل والحوامل، وما في حبالها وحبائلها إلا الشكوى والأنين، وانتظار رحمة رب العالمين ومنظمات الإغاثة الدولية. وأحزان وأحزان منها (حلاليب) التي خُطفت ولم تعد، ولم نقل بعد لخاطفيها/بلهجتهم/(ليه كده)؟!!