عندما يكون المثقف الشريف معادلاً موضوعياً للوطن وقيَمْ الأمة (شعيب) إسم علم محوري الدور في رواية الروائي السوداني الحسن محمد سعيد: (أزمنة الترحال والعودة). (شعيب)، وطني مثقف، نقي وشريف، مستنير واع، ونواة مستدامة الإشعاع والتدفق الخلاق، قوي العقل والرؤى، بسيط كالحقيقة ومتين مثلها، هو (ضالة) كل مؤمن ذي ذات يسكنها (الوطن). وهو ذات نورانية تطوف وتحوم وتحل روحاً وطيفاً أينما حلت. و(معروف) إسم محوري آخر يلي (شعيب) دوراً في الرواية وأحد حوارييه وهو أيضاً وطني نقي ببصيرة مبهرة وعقل جسور، متعدد المواهب؛ معلم ولغوي، وقاص، وشاعر، ومسرحي وفنان تشكيلي. و(شعيب).. صحيح أنه مجرد إسم علم... ولكن اللغة العربية لا تمتنع من قبول معنى إسمه كدالة مفادها يعني؛ (مصّغرْ) شعب. (شعيب) هو روح ذات الشعب: في السكون والحركة، في الحقيقة والخيال، في البائن والمستتر، في الأمكنة الدانية في بلاد إفريقيا الحارة السمراء، وفي صقيع أصقاع أوربا القصية الشقراء. يرتحل في الذوات السودانية النقية أينما يممت وينداح فيها أينما حلت. (شعيب) سرمدي الحضور في أزمنة الآن، والآت، والفات، في الحل والترحال، في الهجرة والأوبة، في الغيبة والعودة، في الظعن والإقامة، في المنام والمقام، في الطيف والمثول الحيوي. (شعيب) هو (ذات) الشعب التي إستلهمها الراوي في رؤياه لما قصدهُ وعناه؛ فمرض (شعيب) هو مرض الشعب وعافيته هي عافية الشعب. وأماني (شعيب) ومراميه هي مرامي أحبابه ومريديه وهي ذات مرامي الشعب وآماله. (وشعيب) هذه الحالة يؤكد ظني بأن روائينا لم يختر إسمه إعتباطاً، كما أن شعيباً في هذا الدور لم يُوظَفْ بمحض الصدفة، ويقيني أن أي اسم آخر غير (شعيب) ما كان يمكن له أن يتوائم مع دور (شعيب) في أزمنة الترحال والعودة . وما كان يمكن أن ينطبق على معناه إنطباق الحافر على الحافر. إن تجاوزنا جدلاً أن (شعيب) يعني تصغير (شعب)، إلا أنه ليس في وسعنا التعامي بأنه المرادف الأنصع لكل ما يوصف به شعب السودان من خصال وقيم؛ إذ هو التسامح، والنقاء، والبساطة والطيبة، والكرم، والشهامة، والاعتداد العذب بالكرامة، فهو العالِمْ المتواضع، والخجول الذي من فرط تواضعه لا يبهرك إلا إذا تكلم فتحس الصوت الذي لا يقاومه الصدى، والزهد المُبْتل بالتبتل؛ والحكيم المشع بالنور والحكمة والفؤاد الناسك الحاني، والذهن المتقد. ولذا كان(شعيب) هو شعب السودان، أصلاً وفصلاً، وعوداً وفرعاً، وجمعاً وفرداً، مثولاً وغيبة، ذهاباً وأوبة. زمان الرواية لقد شرفت بقراءة معظم أعمال هذا الروائي المتفرد الرؤى في صوغ أعماله غطاءاً صادقاً للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للشعب السوداني منذ انبلاج استقلاله فجر العام 1956م؛ وبكل ما حوته تلك الحياة من إنبهار وألق ونجاحات، - وأيضاً بكل ما حوته من نكبات وخيبات وظلمات إبْتَلى بها القدر بلاد (شعيب) المسكين سواءً كانت نُخب مدنية عرجاء أو أطقم عسكرية هوجاء، إذ خبت وهمدت لعهود طويلة شموس الحرية في بلاد (شعيب) وتناهشت العسكرتاريا بدن الشعب المكدود لتسع وأربعين عاماً من مجمل ست وخمسين حولاً هي عمر استقلال الوطن السوداني، حظي فيه أهل السودان بالديمقراطية لعقد واحد يتيم وإلى يوم الناس هذا. وأضحى هذا الشعب المتفرد تنوعاً، والعظيم شعباً والأغنى موارداً هو الأدقع إيراداً والأهزل جسداً والسقيم بدناً بأفاعيل بعض بنيه من مرتادي العقائد ومرتادي الكاكى وزمان المجايلة إن أي مجايل مثلي لأزمنة هذا العمل الفني الثر، لابد وأن تشي له شخوص الرواية بالكثير. تلك الشخوص التي بان بعضها صريحاً، وإنزوى بعضها مُرَمّزاً، - وكليهما الحقيقي والرمزي لابد وأن يفصحا بحكم المجايلة بشخوص وأمكنة وأزمنة الرواية فتتبدى على عارضة الزمن الغائب فاعل الفعل وأفاعيل الفاعل. وعلني ولهاتيك الأسباب - أرى فضاءات أخرى غير التي رآها الأديب فايز البخاري، والذي تناول مشكوراً أزمنة الترحال والعودة بعيون يمانية في صحيفة (الثورة) الغراء (26 يونيو 2012). السودان رجل إفريقيا المريض (2) و(شعيب) الشعب مريضاً الروائي يقدم لنا مع أول جملة في روايته وصفاً للحالة، إذ يروى: أقتبس الآتي: ما شاهدت الخرطوم تضارباً في خبر ما كما شهدت تضارباً وتناقضاً في خبر موته.. ما أن يعلن خبر موته حتى تتسابق الأخبار المضادة نافية ذلك مؤكدة أنه لا يزال على قيد الحياة.. وكأن الدنيا في السودان تحولت وانقسمت إلى فريقين متنافسين ومتصارعين، أحدهما يعمل على وفاته، والآخر يعمل على بقائه حياً..في لحظة قدرية و(شعيب) يتمدد على فراش المرض في مستشفى الخرطوم، تركز الاهتمام كله في تلك اللحظة، وكأن حياة الرجل ترتبط بحياة كل إنسان، سلباً أو إيجاباً، فريق يتمنى موته وفريق يرجو له الحياة.. وفي غفلة الجميع كانت أخبار (شعيب) تجوب الأصقاع، وتعزف لحناً بأوتار الشرق وعطوره المضمخة بطيب الأوراد الصوفية، والوجد الهائم في الغيبيات، فتصنع منه الأسطورة، لتكون مُتّكا لكل مكدود هدته هذه الأزمنة التي لا قلب لها.. انتهى الاقتباس (3). فالشاهد، وما لا يختلف عليه اثنان أن السودان ومنذ مطلع النصف الثاني من خمسينات القرن المنصرم نُعِت ب(رجل إفريقيا المريض). والحقيقة التاريخية، والواقع الاجتماعي، بررا هذا التوصيف الصادق لهذا البلد العظيم المنكود المكدود. وهنا تجلت براعة روائينا الحسن محمد سعيد، في رصده البانورامي واستيعابه الرحيب للحقيقة التاريخية ووعيه المنهجي بالواقع الاجتماعي من جهة، ولامتلاكه المهني لناحية اللغة القانونية من جهة أخرى. وكقانوني ضليع نجح في إشهار ذلك الواقع المرير وإبرازه. وبصيغة بعيدة عن التقريرية والهتافية تمكن من نسج الحبكة الفنية فانداحت الحقائق التاريخية، والوقائع الاجتماعية اندياحاً سلساً. تُرى، لماذا أضحى السودان رجل إفريقيا المريض ؟ ولماذا لم تُكتب له العافية؟ نعم، لأن السودان، وفي الثلث الأخير من العام الثاني لاستقلاله أُبتلي بانقلاب الفريق إبراهيم عبود. ففي 17 نوفمبر 1958م إنقض الفريق عبود وهو القائد العام للقوات المسلحة/ وبمعيته عدد من اللواءات والعقداء/ على السلطة مُشكلاً ما عرف ب المجلس العسكري الأعلى ، فألغى الدستور، وحل البرلمان والنقابات، وحظر الأحزاب والصحف وزج بالقيادات السياسية والحزبية في السجون النائية، وتسلط مجلسه العسكري على شؤون البلاد والعباد، ونصّب حكاماً عسكريين على أقاليم البلاد كافة وحكم حكماً شمولياً ولستة أعوام حزينة قبل أن ينجح الشعب السوداني في إسقاط تلك الديكتاتورية بثورة شعبية عارمة أداتها الإضراب السياسي العام وقيادتها (جبهة الهيئات) في 21 أكتوبر 1964م.