لم يساورني أدنى شك في أن النجاح هبة من رب العالمين قبل كل شيء، صحيح أن هناك شروطاً للنجاح إن لم تتوافر قد لا يأتي النجاح أبداً، أو قد يأتي متأخراً بعض الشيء قد يأتي متأخراً جداً، ولكن العنصر الأساسي لأي نجاح هو توفيق المولى عز وجل .. رد عليّ الأستاذ مصطفى ابو العزائم حينما سألته يوماً عن سر نجاح (آخر لحظة) بقوله إنه توفيق من رب العالمين.. كان رداً مقنعاً وإن كانت (آخر لحظة) لحظة ميلادها جاءت بشكل جديد ومفردة جديدة، وخلطة سحرية، وابتكار لم يكن موجوداً قبلها..ولكن نجاحها كان بسبب ذاك التوفيق الرباني الذي أشار إليه مصطفى أبو العزائم.. تجربتي في صناعة الصحف جعلتني أخرج بنتيجة مفادها أن النجاح من رب العالمين.. فكم من صحف صرفت أموالاً ضخمة، ولم يكتب لها النجاح، وكم من صحف ظهرت بامكانات شحيحة مثل (آخر لحظة) وتبوأت مكاناً رفيعاً. كما خرجت بحصيلة وافرة من الخبرة تجعلني أقول و(بالفم المليان) إن الصحيفة التي تقوم على الفهلوة لن يكتب لها النجاح، لأن القارئ سرعان مايعلم أنها فهلوة مثل فقاعة الصابون، ولهذا لم تصمد صحف كثيرة بنيت على الإثارة والخداع والمانشيتات العريضة عديمة القيمة والمعنى. الوضع الصحافي الحالي لايسر عدواً ولا صديقاً لأن القابعين على الرصيف من الصحافيين أكثر بكثير من الممتهنين المهنة ويزاولونها حقيقة، وهذه النتيجة لم آت بها من بنات خيالي، بل لأنها حقيقة ماثلة أتت جراء توقف عدد لا يستهان به من الصحف لأسباب مادية ولأسباب أخرى من بينها بلا شك لأنها لم ترض ذوق السلطان.. ذكر لي أستاذي (محمد أحمد مبروك)، ذات مرة وهو بالمناسبة يعد من أفضل الصحافيين السودانيين على الاطلاق إن لم يكن أفضلهم ذكر لي أن أحدهم في أحد العصور أراد أن يؤسس لصحيفة فوافقوا على طلبه، ولكن اشترطوا عليه ألا تنتقد صحيفته السلطة أو ارتفاع الأسعار، وألا تنتقد الحكومة أو الأوضاع الاقتصادية المتردية أوالاجتماعية، فقام باصدار صحيفته تحت مسمى صحيفة (الكلام الفارغ ).. وكانت المفاجأة إن أصبحت صحيفته هي الأولى توزيعاً مع أنه لم يكتب فيها إلا كلاماً فارغاً غير مفهوم.. وكانت المفاجأة الكبرى أن قامت الحكومة بايقافها هي أيضاً بحجة أنها تكتب كلاماً فارغاً. الصحف الآن تتفنن في اجراء التحقيقات وتنسى أو تتناسى أو تغض الطرف عن اجراء تحقيقات صحافية عن أوضاع الصحافيين العاطلين عن العمل، كم عددهم وتحت اي شجرة يتجمعون ويلتقون، وكيف تسير حياتهم.. واتحاد الصحافيين نفسه عاجز عن تقديم اي دعم ملموس لهم، لأنه ليس بنقابة تتصدى لقضاياهم، مع أنه- اي الاتحاد- اجتهد في مسائل السكن وغيره من الخدمات، وإن كان يشترط أن تكون للصحافي بطاقة صحافية غير متاحة لمعظمهم نتيجة للتشرد من دور النشر.. إن أوضاعهم مأساوية ويحتاجون الى إنقاذ عاجل، فكيف ننتظر منهم أن يقدموا المفيد لمجتمعهم، وكيف ننتظر من الجالس على الرصيف أن يمنح مجتمعه خريطة الإصلاح وكيف ننتظر من الغارق حتى أخمص قدميه في البحر أن يمدنا بطوق النجاة.. أما الحقيقة التي يجب أن يعرفها كل من يفكر في إصدار صحيفة هذه الأيام هي أن الاستثمار في الصحف يحتاج الى أموال ضخمة تصرف في الإعداد والترويج وفي اختيار الصحافيين بعقود مناسبة، وفي توفير ميزانية أقصرها ستة أشهر للطباعة والأجور للصحافيين وللنثريات، وبعدها يحتاج الناشر الى التوفيق الرباني الذي أشرت إليه في مطلع هذا المقال.. لأن من يريد تحرير شهادة وفاة لاصدارته ما عليه إلا أن يحجم عن الصرف عليها في لحظات مخاضها الأولى..فالصحيفة مثل الطفل (حملها) داخل الرحم يحتاج الى (صرف) والولادة تحتاج الى أموال، وبعد ظهور المولود لابد أن تكون هناك عناية تتطلب الصرف.. والكلام الفارغ لا محل له من الإعراب في هذا العصر .. ولهذا ظل المجلس القومي للصحافة يتشدد في أمر إصدار الصحف، وفي تشدده، هذا يقوم بدور يفوق دور اتحاد الصحافيين في رعاية حقوق الصحافيين، مع أن لوائحه وقوانينه تقف عاجزة تجاه تلك الحقوق... انتهى البيان