تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    وزير الداخلية المكلف يستعرض خلال المنبر الإعلامي التأسيسي لوزارة الداخلية إنجازات وخطط وزارة الداخلية خلال الفترة الماضية وفترة ما بعد الحرب    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكاتب والصحافي: تأويل على دفوعات البطل ... بقلم: صلاح شعيب
نشر في سودانيل يوم 24 - 08 - 2009

تعرفت على الاستاذ مصطفى عبد العزيز البطل في النصف الأول من تسعينات الألفية الماضية. ومن ثم تزاملنا في صحيفة (ظلال). كان كاتبا مميزا منذها، بينما كنت من الجامعين بين الصحافة والكتابة. وفجأة تركنا الكاتب المعهود له بتشذيب العبارة وتنميقها على محجة السودان غير البيضاء وغادر إلى الولايات المتحدة. وما سنين قليلة إلا ولحقت به، وفي غربتنا إمتد تواصلنا عبر الهاتف، كما ظللت أتابع مقالاته المثيرة للجدل هنا وهناك. أختلف معه أحيانا في المنهج، وأتفق معه أحيانا في مضامين كثيرة قصدها بإسلوبه السلس والجرئ، والذي به أتى بسعر معتبر في سوق الكاتب، وصنع عبره مكانا عليا وسط صناع الصحافة.
وفي الاسبوع الماضي قرأت مقالته الإفتتاحية، والتي بصدورها جمع بين الأختين (الأحداث والتيار) وقد حفزني على أن أبني على تناوله لأمر الصراع بين الكاتب والصحافي في واقعنا السوداني. وقد وجدته يقول، لا فض فوه، إن (التجاذب، حتى لا أقول الصراع، بين الصحفيين المحترفين الممارسين للمهنة، والكتاب الصحفيين، ظاهرة سودانية صرفة. وأذكر ان الكاتب الصحفى الكبير، الراحل محمد توفيق، لم يجد بُداً من اللجوء الى اسلوبه الساخر الماكر حين أراد ان يوضح ذات يوم، أمام جمع حافل، الفارق بينه ككاتب صحفى وبين صديقه الاستاذ محجوب محمد صالح فقال إن محجوب (صحفى عامل)، وهو تعبير مهنى محكم وفصيح. ثم أضاف فى وصف نفسه بالعامية: ( وانا..عامل صحفى)! وقد بلغ الشطط بأحد الصحافيين الممتهنين للحرفة أن كتب مقالا فى احدى المساطب الاسفيرية اتهم فيه الكاتبين الصحفيين عثمان ميرغنى وزهير السراج علانيةً بأن تدخلهما فى العمل التحريرى لإحدى الصحف (بوّظ ) الصحيفة).
بادئ ذي بدء، لا شك أن الصحافة السودانية تعايش الآن تحولا كبيرا في ما يتعلق بوضعية الكاتب الصحفي، وهو ليس بالضرورة أن يكون مزاولا أو متمرسا لفنون الصحافة. قبل عقدين من الزمان كان معظم الكتاب لا يجدون التقييم المادي عبر الكتابة في الصحف. وإذا تساءل أحدهم عن حقوقه نظير مقال عن هوان التفكير السياسي للمعارضة، أو نظير دراسة عن تجليات الحداثة في الشعر الغنائي لهاشم صديق، فإن رؤساء التحرير غالبا ما يضحكون ملء شدقيهم إزاء هذا التساؤل الذي يظنونه غريبا وخاليا من الذوق الإعلامي!. فما وقر في آذان فهومهم أن الصحيفة، وهي إذ تنشر للكاتب فهي إنما تزجي له خدمة مجانية يروقها، أقلها أن صورته المرفقة مع المقال تعانق أعين القراء الكرام!
وإذا كان غالب الكتاب لا يجدون مقابلا ماديا فإن الوضع الآن تغير فصار كثير من الكتاب يسطرون بإسعار مرتفعة، وبعضهم يرضى ب"تلتو" ما دام أن التحولات عموما من واقع إلى آخر تفرض الرضا بالمقسوم، وتناضل ضد القسمة الضيزى. وعلمت منذ حين يطول أن أفضل مرتب في المؤسسات الصحفية يتقاضاه أحد الكتاب. وهذا ما يفرح المرء إذا كان ذلك الكاتب قد فرض نفسه بما يجعل قلمه قادرا على تسويق الصحيفة. إذن فليسترد الكاتب قيمته المادية لو أن هذا النجاح الذي حققه زميل لهم يحرض كتاب آخرين لتتبع أثره من أجل تطوير صفحات الرأي، ونشر المعرفة والتنوير، وتعميق حق المحاصصة لأولئك الكتاب، والذين تهمشوا بأمر الماضي الذي جعلهم أضحوكة يتندر بها بعض رؤساء تحرير بالصدفة.
إن التقاليد السابقة التي قامت عليها صحافتنا أن الكاتب غير الصحافي ليس عنصرا مهما في طاقم التحرير المعين، ووضع هذا الكاتب يتطابق مع مراسلي الأقاليم، والذين تهمشهم ميزانيات الصحف ولا تفرد لهم بندا ماليا. ومن ناحية عامة فإن رغبات تأسيس الصحف لا تلقي بالا نحو أمر تعيين رهط كتاب محترفين، مثل جيش الصحافيين الذين تبتلعهم أقسام التحرير ومع ذلك تقول هل من مزيد؟.
على أن رؤساء التحرير لا يفضلون تعيين المزيد أو الكافي من عدد لمحررين، ويفضلون فقط أن يضاعف الصحافي المعين جهده ليقوم بدور المحرر، والمراجع لمادة الآخرين من زملائه، والمساهر في المطبخ الصحفي، والمتجول الذي يتابع زيارت المسؤولين للخارج، ومحرر الزاوية أو العمود أو كاتب الرأي، أو المسؤول عن الصفحة الثقافية.
ولعل لكل مهمة من هذه المهمات في الصحافة الغربية أشخاص متفرغون. فصحيفة النيوريورك تايمز، مثلا، لا تخلط أدوار الصحافيين والكتاب، كما نخلط هنا بين وظيفة الكاتب والصحافي. فالصحيفة العريقة تصدر ملفات متخصصة يدير تحريرها صحافيون متمرسون. في عرفها أن المخبر والمحقق ينتهي دورهما عند البحث عن الخبر والتحقيق. وذلك حمل يكفي. ويجعلهما قادرين على مطاردة حشود الإخفاقات في جسم البلد. أما الذي يراجع الكتب الصادرة، فهو محرر متفرغ يتبع لقسم الرأي. وسكرتارية التحرير يقف عليها صحافيون أشداء على معرفة فنون الصحافة التي درسوا مناهجها، وخبروا مطابخها التي تخرج الشكل الفني للصفحات. وهناك المحررون الذين يقتصر دورهم على أخذ مواد المحررين لصوغها بالشكل الذي يضمن مدى إقترابها من الأسلوب اللغوي الذي عرفت به الجريدة. وهو ليس له علاقة بالأسلوب الصحفي. فأسلوب كتابة القصة الخبرية يختلف من حيث اللغة بين صحيفة وأخرى. حقا أن الأسلوب اللغوي يتفاوت بين صحيفة وأخرى، والمعالجة الصحفية أيضا تختلف. ولا تظنن أن لغة الصحف هنا واحدة. فالصحيفة التي تراهن على اللغة المبسطة إنما تفرضها على كل موادها المنشورة. اما الصحيفة التي تعتمد على الصياغة الغنية بالألفاظ الفخمة مثل (وول استريت جورنال) فهي صحيفة النخبة التي تستخدم مفردات لا تستخدمها صحيفة (يو اس توتدي) التي تستهدف السواد الأعظم.
ولئن قامت تقاليدنا الصحفية تلك على أساس أن رؤساء التحرير يشرفون مباشرة على كل أقسام الصحيفة، بالإضافة إلى قسم الإعلان، وتوجيه سائقي الصحيفة لمرافقة الصحفيين، أو التوقيع على الشيكات التي تذهب لأصحاب الأحبار ومواد الإخراج، أو متابعة إجراءات الطباعة حتى آخر الليل، أو كتابة الأخبار وإجراء الحوارات ومرافقة رؤساء البلد أو المسؤولين الكبار، فالأمر يختلف في الصحافة الامريكية. فكل شئ يتعلق بالمؤسسة الصحفية هناك يتحمل مسؤوليته متخصصون زادهم الإستقرار المهني إبداعا وحذاقة. إنك واجد، لا محالة، بعض مسؤولين تحريريين في مصاف رؤساء التحرير داخل الصحيفة. يشرفون على الملفات الصحفية، مثل الإقتصادية، أو الرياضية، أو الفنية. وهؤلاء لا تقع عليهم مسؤولية رئيس التحرير المسؤول قانونيا أمام القضاء عن ما يتعلق بما يقومون بنشره. ولا يتدخل المشرفون على الملفات للإنحياز إلى فريق رياضي دون أخر كما يحدث أحيانا في أقسام الصحف الرياضية في بلادنا. أما مواقع الصحف في الأنترنت فلها كثير سدنة للصحافة يقومون بجلب مواد الصحيفة إلى أثير الأنترنت. وصدق إذا علمت أن الذين يشرفون على موقع النيويورك تايمز في السايبر، كما أفادنا الاستاذ محمد علي صالح، يتجاوز عددهم الخمسة وثلاثين فردا.
وهكذا تنهض مهنية الصحيفة العريقة التي لا تتيح فرصة لكاتب ما، مهما علا شأنه، أن يدير الصحيفة، لمجرد أنه بروفيسور متخصص في الصحافة من هارفارد، أو سيناتور سابق من ييل أو برينستون، أو وزير إعلام في حكومة كلينتون، وكان سابقا مدير قناة فضائية. فمعظم رؤساء التحرير هم ممن قضوا ما يقارب الثلاثة عقود في تغطية الحروبات، ومتابعة القصص الإخبارية المثيرة، وتسنم مسؤوليات صحفية داخل الصحيفة لعقود، والمغفرة للأستاذ روبرت نوفاك الذي ظل حتى آخر مقال كتبه يعرف حدوده. إذ هو يرسل مقاله إلى الواشنطن بوست ويجده في اليوم الثاني، وقد خضع للصياغة التي يعمل فيها رئيس صفحة الرأي تشذيبا وتوضيحا، رحمة للقارئ الذي أعتاد على سلاسة ورصانة اللغة.
وإذا قاربنا أمر المرحوم نوفاك سودانيا لوجدنا أنه ينبغي أن يقف خبير في الصياغة الصحفية مثل الاستاذ عثمان نمر على المقالات التي ينشرها بعض (البروفيسورات واللواءات المعاش). ولكن للأسف فإن رؤساء التحرير لا يرغبون في الإستعانة بخبير في الصياغة التحريرية هو في مقام الصحافي والكاتب مايكل كينسلي مثلا. والذي جمع بين الصحافة والكتابة ويعتبر من أنجح الكتاب الذين يخبرون الأسلوب الصحفي، حيث كان يقوم بإعادة صياغة مقالات الواشنطن بوست ولوس انجلس تايمز، مهما كانت رتب وألقاب من كتبها. وأعلم أنه إذا قرأت مقالا لرؤساء الدول أو الامين العام للامم المتحدة في النيويورك تايمز فتأكد أن يدا لحقت بنية الاسلوب فهندمتها حتى تتماشى مع قوانين النشر، وهي إذ متضمنة في صفحات الرأي نفسها لا تغشى من التأكيد على أنه يجب عليك الموافقة على إخضاع المادة المرسلة للنشر وفقا لما يرى المحرر المسؤول.
إن تنامي فرض الكاتب في صحافتنا المحاصرة بالمتاعب مطلوب وموجد للتنافس بين صحيفة وأخرى، بيد أنه لا ينبغي أن يكون ذلك التنامي سببا لتقلص دور الصحافي أو هضم بعض حقوقه. ولا أعتقد أن أي تقييم مادي لكاتب ينافس به تقييم لصحافي ذي عمر مديد في المهنة سيكون سببا للغيرة بين الصحافيين والكتاب. فنجاح الصحيفة هو نجاح للصحافي والكاتب معا. وإزدهار الصحافة عموما إنما يعود لهما. والشئ الثالث هو أنه لا توجد صحافة بلا كتاب، سواء كانوا من الذين مارسوا الصحافة، أو لم. وإذا أحس الصحافيون داخل الصحيفة أن هناك كتابا يجدون تقييما ماديا لا يتناسب مع الطاقة التي يبذلونها لتحرير الصحيفة، متشكين بأنهم الأوفر نشاطا على مدار اليوم، بينما لا يرون الكاتب البتة إلا عند مجيئه لصرف إستحقاقاته، فإن أمر التشكي لا يستقيم هنا. فالكاتب، آخذين في الإعتبار الأسباب التي وسعت من حجم قرائه، لا يقارن بدور بدني للآخرين الذين يصنعون الصحيفة. فهو ينطلق من خبرته في الكتابة. وموهبته في صوغ الحروف التي تضعه في مصاف القادرين على جلب القراء، وقبل هذا وذاك معرفته لدور الكتابة في التاريخ، من حيث أنها تشكل قسماته، وتوطد أركانه.
بشكل عام يمكن القول إن أفضل الصحف هي التي يقودها صحافيون، وليس هي التي تمتلئ بالكتاب المهرة الذين جلبهم رئيس تحرير بدأ كاتبا وذاع صيته وقرر أن يمارس الصحافة وهو فوق الخمسين. القاعدة هي أنه كلما تعمقت خبرة رئيس التحرير في العمل الصحفي إضطرد نجاح الصحيفة. ولكن هناك حالات شاذة تتعلق بالمناخين السياسي والإجتماعي اللذين يسببان لبعض رؤساء التحرير الممتازين الفشل في خلق مؤسسات صحفية مؤثرة.
ظروف هذين المناخين، حيث فيهما تكشر الشمولية عن أنيابها، قد تمكنان كاتب صحافي، خبرته الصحفية قليلة، أن ينجح في خلق قاعدة عريضة من القراء لصحيفته المدعومة بمواريث المناخين المذكورين، على أن إنتشار الصحيفة لا يعني بأي حال من الأحوال أن هناك عملا مهنيا جيدا تم الإعداد له وسبب هذا الإنتشار. فما نعرفه أن المنافسة بين المؤسسات الصحفية الآن لا يخضع للقياس الصحفي الموضوعي، أو المنطلق معرفيا، أو المتأكدم إن جاز التعبير، أو قياس قدرة الكتاب في أداء دورهم بفاعلية رسالية، وإنما تحكمها مساهمة السلطة القائمة في تثبيت دعائم المؤسسة المعنية بالإعلان، والذي صار عاملا حاسما يتحكم في إستقرار ونجاح الصحف. زد على ذلك أن ضمور مساحات التساوي بين المواطنين المبدعين عموما، لأسباب تتعلق بطبيعة ذينك النظامين السياسي والإجتماعي التي يعايشونها، لا يساعد في تقوية بنيان التنافس الشريف بين الكتاب والصحافيين، وبين مؤسسة صحفية وأخرى. والصحافة في بلادنا ظلت تتأثر بالمؤثرات التاريخية لإفرازات السياسة والإجتماع الشمولية. إن حرمت هذه المؤثرات بعض صحافيين وكتاب مهرة في العيش بكرامة في رابعة النهار وأطراف الليل، ناهيك عن إيجاد التمويل لإصدار الصحف، فهي تحرم أيضا وجود المناخ الديمقراطي الذي من خلاله تستبين القدرات الحقيقية الخلاقة للكتاب والصحافيين غير المدعومين إلا بإبداعهم القمين بوضعهم في المكان اللائق وسط الذين يتميزون بعقل صائب وحرفية متقدمة.
الآن، بناء على ما تقدم، نجد أنه مهما إستطاع رئيس تحرير ما أن يضم أفضل الصحافيين المتحررين عن الإنتماء السياسي، وأميز الكتاب الذين يعبرون عن آرائهم بشجاعة متناهية، فإن مصير صحيفته مرهون بالدعم الحكومي المعلن والمستتر. وإذا وجد أن هناك صحفا قادرة على أن تكون راسخة إقتصاديا في نظام شمولي فعلينا هنا أن نستفسر عن قدرتها على نشر الخبر الذي يهم المواطن، أو عمل التحقيق الذي يبين مثالب الأوضاع الحكومية، أو نشر الحوار الذي يفيد المهتم بالمعلومة والثقافة. نقول هذا وفي ذهننا أن رئيس التحرير الناجح، والكاتب الحصيف/الملتزم جانب الوطن والمواطن، وهما من المثقفين الملتزمين بالضرورة، غالبا ما يعانيان من أداء دورهما في خلق صحافة مستنيرة وقادرة على أن تكون بالمجاز سلطة رابعة، وكذلك يعانيان من صعوبة مشهودة في خلق الوعي (السياثقافي) الذي له ما له من تبعات على السلطات المجتمعية العاجزة عن تحقيق متطلبات الحياة الاساسية، والتي تبدأ من وجوب توفير أسس الحرية والديمقراطية، ولا تنتهي فقط عند تحقيق التداول السلمي للسلطة، أو مراقبة الجهاز التنفيذي بصرامة.
إن تخندق الاستاذ مصطفى البطل أمام الاستاذ عثمان ميرغني، مدافعا وهو يحس بعضا من أقاويل عن خلفيته (الكتابية) التي لم تشبها شيئا من دربة ومران صحافيين، ينبغي أن يكون تحديا لصاحب (التيار) لإثبات قدراته الصحفية المشكوك فيها من قبل من عناهم البطل. وإذ يستميت البطل في الدفاع عن رئيس تحرير (التيار) والذي لا شك أنه عزز إهمية الإلتفات إلى دور الكاتب، فإنه يعطي الصحيفة دعما معنويا ينبغي أن يضاعفه الذين يقنعون أن صدور صحيفة، مؤمنة بإتاحة الآراء الحرة، يشرح الصدر، ويلين جانب الفظاظة الفكرية في زمن السلفية التي تنتاش صفاء المواطنين، وفي وقت ضربت الأصولية/الإثنية خيامها في عقول المواطنين وأغلقتها بالضبة والمفتاح. ولتكن (تيار) عثمان ميرغني فرصة لمواصلة مراجعاته للفكر السياسي الذي أوصلنا إلى هذا الوضع القاتم، فما أذكره أنني ظللت من القارئين المواظبين لميرغني برغم مساحة الإختلاف الفكري بيننا، ووجدت أنه راغب للتصالح مع ذاته، وعاكف على نقد الواقع بعقل لا تتغيب عنه الجرأة.
إن المرء لا يزال على يقين راسخ أن نجاح الصحيفة يتطلب توافرا لعدة عناصر، وليس عنصرا واحدا فقط. فالمال وحده لا يخلق صحيفة تولد بأسنانها، أو تفطم من بعد كفاح لإثبات وجودها في سوق نشطة للصحافيين والكتاب. كما أن الخبرة الصحفية وحدها لا تكفي ما لم تتحصل الصحيفة على نصيب من إعلانات القطاعين العام والخاص، كما إستطردنا. فضلا عن ذلك فإن الموقف السياسي المعارض للصحيفة سيجعلها، في ظروف عسر هضم التحول الديمقراطي عرضة للإستهداف. ومن هنا فإن تمترس البطل لرفد رئيس تحرير (التيار) بالدعمين المعنوي والكتابي سيبقى أحد العوامل التي سيتقوى بها الاستاذ عثمان، ولكنها وحدها لن تغنيه من الإعتبار من خلو صحافتنا من المواد الصحفية التي تنحاز للمواطن والسعي، من ثم، لتاسيس صحيفة تستلب إهتمامات القراء من كل جنس، وتشكل تيارا جديدا في الحقل الصحفي، وتؤثر على مجرى الحال العام لمواطنينا الذي أرهقهم البحث بين السطور عن كتابات حكيمة تنشد نظام حياة، لحمته التسامح، وسداته توطيد الأخلاق.
ولعله البطل القائل إن (الساحة تعج بالصحف التى تلتمس الرصانة وتتوخاها، وصحيح أيضا أن الحقائق المشاعة من أمر أرقام توزيعها تثير الكثير من الاسئلة والافتراضات. وقد تكمن العوامل الفاعلة وراء الواقع الراهن فى ديناميات صناعة الصحافة نفسها، كما قد ترتجى عند جمهرة القارئين، الذين ربما أزهدتهم فى وسائط الاعلام إجمالا (كثرة الكلام) و(كثرة الكتابة)). إذن فحاجة التيار إلى الإختلاف بالنهج، إختلافا لا يعصمها من الإستعاضة بمنطق الحداثتين الفكرايين والثقافويين، أي قراءة واقع المنشور في الصحف جيدا، والأتيان بخدمة صحفية جديدة في شكلها، ومحتواها، ومصباتها، ومردوداتها. ويقيني أن طاقم التحرير المعين بواسطة الاستاذ عثمان ميرغني سيكون معينا له، أكثر من كتابته، في نشر نسخ الصحيفة في العاصمة والأقاليم. فالصحيفة لا تعتمد على الكتاب وحدهم للإنتشار، مهما كانت قدرتهم على الإفصاح المباشر والذكي، وإنما يتأتى لها الإنتشار عبر رؤية صحفية متكاملة تهتم بالقارئ في ظروف كثرت فيها الصحف وتكاثرت المعالجات الصحفية والكتابية، وفي ظروف يتمدد فيها الأنترنت على مساحة الإهتمام التي يوليها القارئ للمكتوب عموما.
إن التيار تصدر في ظروف مفصلية يدركها رئيس تحريرها جيدا، وهو الذي يحاول من خلال مقالاته أن يتخذ موقفا نقديا من أفكار وممارسات كثيرة. ومع ذلك دعنا نرى إلى أي حد يثبت الاستاذ عثمان ميرغني أن دفاع صديقه البطل ردا على الشنشنة التي أوجدها الكثيرون عن خبرته الصحفية، سيبقى لسنين طويلة. وعسى تسهم نجومية صديقنا البطل المتمددة في إحداث العدل بين الأختين، وإلا فحسبه واحدة، يطعمها بمحبة من غالب طعوماته الأدبية. وبالله التوفيق لصحافيي وكتاب التيار.
salah shuaib [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.