هذا الكبرياء الجارف الذي ظهر به مرسي وهو يرفع اللآت أمام جنرالات الانقلاب كان ضرورياً جدًا وذلك ليكتب التاريخ بوضوح تام دون لبس أو غموض أن خصومه آثروا أن يبيعوا(الحرية) بأبخس الأثمان فرارًا من (الرأي الآخر). سيكتب التاريخ أن هؤلاء باعوا (الديمقراطية) للعسكر لأنهم لم يتذوقوا قط طعم الحرية! وإنهم مسؤولون عن تأجيل التجربة الديمقراطية النظيفة إلى عشرات السنين. ها هي التجربة الجزائرية تتكرر في مصر والتاريخ لا يعيد نفسه ولكن تتشابه الأحداث كتشابه الدوائر المتداخلة في المسار الحلزوني. ها هو «الاسلام السياسي» يكتسح صناديق الإقتراع وهاهي قوى غير شرعية تقلب المائدة لأنها متضررة، ولكن إذا كان من رفض(الحرية) في الجزائر هو أمريكا وأوربا، ففي التجربة المصرية هو أقلية ولكنها أعلى صوتاً من غيرها ! رفضوا نتائج اللعبة الديمقراطية، وبسبب الخلافات الفكرية فتحوا شهية الجيش للسياسة. وصمة العار ما زالت تلاحق الدرك الجزائري بعد مضي أكثر من عشرين عاماً، ولكن كان العذر هناك أن الشعب الجزائري لم يشارك في الجريمة.أوربا هي التي أوعزت للجيش الجزائري في خطوة «غير أخلاقية» لطرد الإسلاميين من السلطة. أخشى أن يقال يوما: إن الفضيحة في مصر أعمق لأنهم قدموا «الوطن» لقمة سهلة لجنرالات جيش. السبب هو ما قتلناه بحثاً تحت عناوين ..«محاكمة مبارك الجيش المصري يحتل أرضى دع الزهرة تتفتح».. السبب هو (القابلية للإستبداد) أو (نفسية الكرباج) الذي حكم به الصحابي الجليل عمرو بن العاص هذه النفسية التاريخية أضعفت قدرة قطاع من الشعب المصري على الصبر. عندما وجدوا أن من السهل الخروج على أول حاكم مدني في تاريخ مصر ناعم القبضة متسامح لحد التفريط فخرجوا عليه. كان الجيش الجزائري يعلن صباح مساء أنهم لا يمارسون السياسة، وهم في حقيقة الأمر يديرون المشهد من خلف الستار.. هذا هو بالضبط ما يحدث الآن في مصر. إذا قرأنا مستقبل(الثورة) في مصر على ضوء «ثورة» الجيش في الجزائر ستكون الصورة كالتالي:سيستعين الجيش بشخصيات باهتة حتى يخرج من بينهم رئيس منتخب في نظام ديمقراطي مزور. وسيكون الرئيس القادم إمتدادًا لظاهرة «الوظائف المخلوقة» لن يفعل شيئاً إلا وعينه على السيسي.. حتى هذا الرئيس المؤقت كان أمره مضحكاً وهو يطمئن (الأخوان) في الوقت الذي كان الجيش يعتقل قادتهم الواحد تلو الآخر.. سيظل رئيساً (خارج الشبكة) حتى تنقضي أيامه. عقب فترة الشخصيات الباهتة سيخرج دكتاتور ذو كرزما إستبدادية كما ظهر(بوتفليقة) بعد أكثر من عشرة أعوام في التجربة الجزائرية وهو الآن أسوأ من(بومدين)الدكتاتور التاريخي القديم. الملاحظ أن مبررات خصوم مرسي ضعيفة لدرجة مزرية والشهادات مجروحة، كأن يبرر أحدهم (شرعية الانقلاب) بالقول: إن الشعب في ميدان التحرير «صوت بأقدامهم» وهذا لا يقل أهمية عن التصويت في صناديق الإقتراع!! وكأن يقول آخر: إن الديمقراطية ليست صناديق إقتراع بل هي (قافية)..حذلقة لغوية ليس إلا.. أما ما قاله (المصدر) العسكري أن العقيدة العسكرية لا تسمح بالانقلاب. كان أمرًا هو الآخر مضحكاً. يقول مثل هذا التبرير في حق جيش أنتج ثلاثة أنظمة دكتاتورية في ستين سنة فقط. لم يستطع أحد أن يبرر لثورة 30 يونيو شرعيتها الثورية. من المستحيل منطقياً أن تنسج شرعية لثورة قامت من أجل التخلص من الإختلاف الفكري. لندلل على ذلك تعالوا نبحث عن نصيب مرسي في أسباب هذه (الثورة). أسباب التجمع في (ميدان الحرير)هي: üثورة الجياع. üالاقباط والاستقطاب الديني. üأنصار النظام القديم «المافيا السياسية». üالتحالف الحزبي. üثورة الشباب. ثورة الجياع هو السبب الحقيقي في الثورة الأولى في (25يناير- وفي الثانية 30 يونيو). وهؤلاء عبروا في شفراتهم بوضوح (علشان الكهرباء.. علشان الجار.. علشان الخبز). معلوم أن نظام مبارك ترك خزينة خاوية محروسة بمجتمع فاسد. طبقاً لهذا الواقع كان مفهوماً بوضوح على الأقل بالنسبة للمراقب الخارجي!! أن أول من سيتصدى للسلطة هو من سيدفع ثمن «وش القباحة» . معالجة القضية الإقتصادية قبل سنوات مستحيلة الحدوث، ناهيك عن أشهر معدودة أو سنة واحدة. وعلى هذا مفهوم تماماً أن الجياع لا ينتظرون. أول خطيئة إرتكبها (الأخوان) لدى الخطوة الأولى هي عودتهم من وعدهم القديم بعدم المشاركة في انتخابات الرئاسة!! والسبب كما يبدو هو إستعجال السلطة. كان من الذكاء أن يتركوا فترة (وش القباحة) هذه إلى حكومة جماعية أو لشخصيات من أحزاب أخرى. هذا الموقف (الأخواني) تسبب في تحمل مرسي أعباء «ثورة ناقصة» لم تكتمل بالتطهير. هذا الخطأ الاستراتيجي استغله الخصوم بسهولة شديدة من الشهر الأول من تعيين مرسي ولكن هذه الخطوة غير الموفقة من المعارضة ستكون على المدى البعيد في صالح الأخوان. مرسي أصبح رمزًا للحرية ولن يستطيعوا إقناع أحد بمنطقية هذا الإنقلاب. إذن من هم خصوم مرسي؟ أبرز الخصوم في ميدان التحرير كان الأقباط . ومعلوم عداءؤهم التاريخي ضد ما هو إسلامي. هؤلاء أقلية نسبتهم بين المصريين 10% ولكن ثقلهم في ميدان التحرير تجاوز ال 30%. للفارق النوعي بينهم والمسلمين يستطيعون أن يفعلوا الكثير في أجواء الحرية ولا ننسى أن الثورة كانت إعلامية أكثر من أي شيء آخر. لدى هذه الفئة مفهوم تماماً كيف تباع (الحرية) بأي ثمن ! لأن المقابل هو العقيدة الدينيةّّّّّّّّ!! أما بقايا (النظام) فقد كانوا المستفيد الأول وهذه الثورة لأنصار(مبارك) بإمتياز. غياب عملية التطهير أدى إلى خروج هذه الفئة من مخابئها في الشهر الثالث بعد انتخاب مرسي.حاربوا دون هوادة.. مستغلين أولاً القضاء ثم الإعلام وأخيرا الأمن(المخابرات والشرطة والجيش). القضاء عطل البرلمان.. والإعلام عبأ الشارع.. وامتدت أياديهم إلى الأسواق وخاصة البورصة. استعجالاً للسلطة أخذ (الأخوان) الجرح بصديده وأول العقبات كانت في التعامل من العناصر القديمة. إزالة أنصار الأنظمة القديمة دائماً لا تتم إلا بشرعية ثورية. حاولوا أن يبثوا أنصارهم في المؤسسات وهذا حق طبيعي لحزب حاكم نشر برامجه في صناديق الاقتراع.. ولكن استطاع أنصار النظام القديم أن يروجوا ضدهم.. أنهم يقومون (بأخونة) المؤسسات.. وظهر الأمر كأنه إستبداد واستئثار بالسلطة. ومن مفارقات هذه الدعاية أن المعارضين كانوا يقولون أن مرسي عيّن سبعة محافظين من الأخوان من سبعة عشر؛ أليس هذا الكلام دليلاً على عدالة مرسي؟! كيف يكون عدد المؤيدين لحزب حاكم واضح الأجندة أقل من هذه النسبة؟ والغريب في الأمر أن هذه الدعاية نجحت لدرجة إرباك سياسات مرسي. اضطر لتعيين شخصيات باهتة في مواقع كان لابد أن يملأها من يتحملون معه مسؤولية برنامجه الانتخابي. هذا النوع من الوزراء هم من باعوه مع أول صدمة. هذا الضعف ظهر بوضوع في وزير الخارجية الذي أبلغ الدبلوماسية الأمريكية بأن تحرك الجيش ليس إنقلاباً!!يتحرش الجيش المصري بمرسي كتحرش الثعلب بالديك وهما على ظهر سفينة. لم يجد الثعلب منطقاً للقضاء على الديك إلا إتهامه بأنه يثيرالغبار في وسط البحر!! أجهدوا أنفسهم في البحث عن عيوب مرسي. وانتهوا إلى أنه هرب من أحد السجون في عهد مبارك.. ورأوا في هذا جريمة! ولإذلاله أيضاً (وضبوا) له إتهاماً بأنه أهان القضاء.. وقد كان محقاً وهو يتكلم عن بعض القضاء المسيس. خلاصة: ما أردنا قوله في هذه العجالة هو أن مرسي ليس مسؤولاً عن قضية الجوع ولا عن الأقليات الدينية ومن حقه أن يخطيء، ولا يجب أن يحاسب عليه وعمره في الحكم لم يتجاوز العام... ومهما كان حجم أخطائه..! الإنقلاب عليه لا يجوز عقلاً ومنطقاً.إذن ما تم يعد انقلاباً صريحاً وما يقال أن السيسي(قائد الانقلاب) لا يطمع في السلطة ضرب من الخيال المثير للسخرية. السيسي هو الرئيس الفعلي. أما الرئيس القادم سيفرزه نظام ديمقراطي مزيف!! ولن يكون أكثر من موظف في مجلس السيسي. وهناك فرق كبير بين جيش (ثورة يناير وجيش - ثورة يونيو). ونكرر هنا ما ذكرناه سابقاً: مصر فقدت فرصة (الديمقراطية) ولن تعود إليها إلا بعد سنوات طويلة.أمام مصر الآن حقبة «الشخصيات الباهتة» في الحكم ثم بعد سنوات قليلة سيظهر دكتاتور ذو كرزما إستبدادية.. ثم تعود الديمقراطية. وكما حدث في التجربة التركية سينتهي الجنرالات إلى السجون. إلى ذلك الحين ستزهق أرواح كثيرة كان يمكن تجنبه بشيء من الصبر دون الإنجرار خلف كراهية كانت واضحة على السيسي! وهو يلقي البيان- وقد بلغ الحقد درجة عدم ذكر إسم مرسي!! ولكن بين ليلة وضحاها استحال مرسي إلى رمز يقبع الآن في محبسه على صورة أسد جريح!!