الكاتب والمحلل السياسي الأميركي وليام فاف يتساءل في مقال نشرته («تريبيون ميديا سرفس tri bunmediservice)قائلاً:» (هل أدركت واشنطن أن الحرب الثقافية التي شنتها الإدارة الأميركية هي أسوأ أنواع الحروب، وأن الأسوأ منها أنه لم يسبق لغزو الفوز في هذه الحرب يوماً)) ويضيف قائلا في المقال:((تحولت الحربان الأميركيتان اللتان أشعلتهما هجمات الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 إلى حربين ثقافيتين، ولكن دون انتباه إدارة بوش أو الرأي العام الأميركي لهذه الحقيقة،فمن الناحية العملية، هما في الواقع هجمتان على الملامح الاجتماعية الأساسية،أي على الثقافة والدين في كل من العراق وافغانستان، وهذه أمور لا يعرفها الأميركيون كثيراً،أو ربما لا يدركونها إطلاقاً)). ويتابع وليام فاف قائلا في مقاله : ((وهذا هو السبب الأساسي الذي أدى لإخفاق هاتين الحربين في تحقيق أهدافهما الرئيسة، أما بقية الاستراتيجيات والتكتيكات اللاحقة من زيادة لعدد القوات في العراق وتعزيز مهمة (حلف الناتو) في افغانستان وابتكار خطة أمنية جديدة في العراق، وما يتبع من استراتيجات جديدة قادمة، كل ذلك لا فائدة منهولا يؤدي إلا إلى إطالة أمد الألم والنزاع،أما إذا استمرت واشنطن في تصعيد مواجهتها العسكرية مع طهران ووجهت إليها ضربة عسكرية بالفعل، فإن الوضع سيزداد سوءاً وتدهوراً،إن ما يجري اليوم ،سواء كان في العراق أو افغانستان ،أن العنصر السائد في كلا البلدين هو الاحتلال الأجنبي، سواء كان من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية أو من قبل (حلف الناتو) ، والحقيقة أيضاً أن أي من الدولتين لم تشكلا تهديداً مباشراً لأمن الولاياتالمتحدةالأمريكية أو لأمن أي من حلفائها،والحقيقة أن الإدارة الأميركية ما غزت العراق، إلا لأنها عقدت العزم على ذلك، وأن الأمر لا علاقة له البتة بهجمات الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001، وفي كلتا الحالتين العراق وافغانستان فقد كانت النية المبيتة، هي تنصيب حكومات موالية للولايات المتحدةالأمريكية، ولا علاقة لها بالمصالح الوطنية العراقية أو الافغانية، إضافة إلى غربتها عن الواقع السياسي الثقافي لكلا البلدين،وفي العراق، وكما هو عليه الحال في افغانستان تسود البنية الاجتماعية القبلية العشائرية، لذلك فإن أمن الفرد وتقدمه، يعتمدان على الرباط العرقي العشائري المشترك، وكذلك على عرى العقيدة الدينية أو المشتركة، إضافة إلى الدور الاقتصادي الاجتماعي الذي تؤديه الجماعة القبلية في الإطار الاجتماعي الأوسع نطاقاً،وقد كانت لهذه المجتمعات دون أدنى شك، وسائلها التفاوضية العشائرية فيما يتصل بعملية اتخاذ القرارات السياسية الوطنية العامة أو التشاور حولها، ففي افغانستانهناك (مجلس اللوبيا غيرجا) أي مجلس أعيان وشيوخ القبائل والعشائر، وغني عن القول إنه مجلس استشاري، له سلطة التفويض التي تؤهله لتمثيل الرأي العام الواسع بجميع وجوهه السياسية والدينية والاجتماعية، إن تركة المغامرة العسكرية الغربية في كل من العراق وافغانستان، لا تتفق وما يجب أن يكون عليه الحال في البلدين اللذين طالتهما تلك المغامرة حيث أن الامبراطوريات تترك شعوب الدول المغزوة على أسوأ ما كانت عليه،وحتى لو كان القصد الأميركي من المغامرة العراقية، هو إقامة امبراطورية (شرق أوسطية واسعة)، بحيث تتمكن من توحيد مساحاتها الاستراتيجية، ومواردها الطبيعية، فقد كان ممكناً لها أن تنهمك في استخراج نفط العراق، وفي بناء قواعد عسكرية قوية لحماية مصالحها فيه إلى جانب تنصيب حاكم جديد قوي بدلاً من الحاكم الذي أطاحت به،لكن الغزاة طلبوا ما هو أكثر من ذلك وأصعب، بسعيهم إلى تغيير قيم أفراد الشعوب وتقاليدها وعاداتها وإلى مسخ قلوبهم، حتى يتسنى لهم إنقاذ أرواحهم، مما لحق بها من شر آثم مستطير)). وظل الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي المعروف و المشهوروليام فاف مثابراً على الإسهام بعموده الصحافي في صحيفة (انترناشونال هيرالد تريبيون) لمدة ربع قرن كامل، وقد جعلت منه هذه المساهمة أحد أهم المحللين السياسيين الأمريكيين إضافة إلى النفوذ الكبير الذي يتسم به وليم فاف لما يتحلى به من قوة في تحليل وتأويل الشؤون الدولية، والكتاب الذي نعرضه اليوم هو المؤلف العاشر تحت عنوان (مأساة السياسة الخارجية الأمريكية) ليضيفه إلى مؤلفاته السابقة، وقد اعتبر كثيرون هذا الكتاب قمة ما خطه الكاتب عن السياسات الدولية ومصير الولاياتالمتحدةالأمريكية ، وفيه يصف المؤلف ما يسميه بمصادر المأساة المهملة، والعواقب غير المنظورة لجهود الولاياتالمتحدةالأمريكية الحالية الهادفة إلى إعادة تشكيل العالم و تفصيله بما يتناسب ومقاييسها، ويركز الكاتب في مناقشاته على تأويل الأصول الثقافية لرؤية الولاياتالمتحدةالأمريكية للعالم الخارجي، وقد دفعتها هذه الرؤية الى خوض سلسلة من الحروب الفاشلة و التدخلات العسكرية في شؤون الدول، ولعل فيتنام كانت الأكثر مأساوية ودموية بين جميع تلك الحروب،و لكن لم تتوقف سلسلة التدخلات هذه بل امتد نطاقها لتشمل غزو أفغانستان في العام 2001 والعراق في العام 2003، ولم تفز الولاياتالمتحدةالأمريكية بأي من الحربين، وبالرغم من صعوبة الفوز بهاتين الحربين، ها هي واشنطن تواصل استعدادتها لشن أي هجوم آخر، إذا ما دعت الضرورة إلى ذلك.