دائما باتجاه الشمال كأن الهوى بوصلة أو كأني أجيء لها واحداً وأعود وحيداً أو كأن القصيدة تورق بين الأصابع كالسنبلة استحضر هذا البوح الشفيف من نص للرجل الساحلي الجميل الصحافي والشاعر السعودي «هاشم الجحدلي» نائب رئيس التحرير في صحيفة « عكاظ، أستعيد هذا النص وأتذكر ليالي البرد في أقاصي الشمال.. ليالٍ كانت مسكونة بالزمهرير في شهر طوبة اللئيم.. كان كل شيء في أمسيات البرد يتحول إلى بيات حتى إشعار آخر، كانت أجسادنا الغضة في السنين الخوالي تصاب بالجفاف والتشقق لدرجة الإدماء، وأقرب وصف لأجسامنا في تلك السنين أنها كانت تماماً مثل حرافيش السحالي البرية أو قشور الورل أعزكم الله.. شقوق وحرافش لا يمكن أن تندمل بأجعص أنواع الزيوت، طبعاً لم يكن في زماننا يا حسرة كريمات لترطيب وتقشير البشرة واللوشن والذي منه.. كان صاحبنا الفازلين بمثابة الكل يوم معانا ورغم ذلك فإن شقوق أجسادنا كانت تستعصي على المدعو الفازلين ويظل الحال يا هو نفس الحال.. على فكرة رغم أن علاقتي انقطعت بالشمال منذ سنوات طويلة، بعد رحيل الأسرة إلى العاصمة، إلا أن محسوبكم العبد لله ما زال على اتصال بالبقية الباقية من أرحامه وأهله وأقربائه الكثيرين والذين ما زالوا أوفياء لمنظومة القرى الشمالية. أذكر قبل أكثر من ثلاث سنوات هاتفني صديق قديم ما يزال يصارع البرد في قرية شمالية، صاحبي أبلغني أن المواسير تكسرت من شدة البرد في القرية، وأن نواح الريح الشمالية في العشيات تذكره ببكاء الثكالى في الأمسيات الماحقة، وأن أجعص جعيص لا يمكنه مقاومة البرد، والخروج في الصباحات الباكرة.. يا الله.. تذكرت سيناريو الصقيع في البر الشمالي، فسطعت في دماغي الخربان كيف أن العلاقات الاجتماعية في السودان أصبحت باردة هي الأخرى ومصابة بالبرد، برد أقسى من صقيع ليالي الشتاء في الشمال، كل واحد أصبح يغني على إيقاع عشرة ونص وأنا ومن بعدي الطوفان.. لم تعد اللحمة الاجتماعية كما كانت في السنين الخوالي، اختفت النخوة وانتقل أهل الفزعة والذي منه إلى الضفة الأخرى.. لكن صدقوني أن أبرد علاقة يا جماعة الخير تتمثل في برود العلاقة بين السلطة والشارع.. إنها علاقة مصاب بالتوتر والبرود ولم يحدث في كل عهود الحكم المتعاقبة أن ساءت علاقة بين الشعب والسلطة كما هو الحال في الراهن ،إنه زمن العجائب ، جاتكم نيله .