يخذلني الوقت، يأكل من مائدة إحساسي، الكثيرون أمثالي يجدون أنفسهم في مواجهة الزمن، ويرفعون عقيرتهم على إيقاع مقطع (شرب الزمن فرح السنين والباقي هداهو السفر) لسيد الغناء السوداني الراحل "مصطفى سيد أحمد" رحمه الله ، هؤلاء الناس من أمثالي يجلدهم الزمن بسوطه اللعين ويطاردهم في صحوهم ومنامهم. عفواً يا جماعة الخير في هذه الظهيرة بدأ الرجل يتمطى مثل قط كسول يتمدد في أشعة شمس الشتاء الواهنة، في هذه الأيام يتوقف كثيراً عند محطات الشتاء، يتذكر صباحات الصقيع في قرية منسية في عمق الشمال، كنا نحفظ عن ظهر قلب أسماء الشهور القبطية (توت، طوبه، كهيك، مسرى، برمودة، أمشير وبؤونة)، كلها أشهر مرتبطة بالمحاصيل والزراعة وحالة الطقس والذي منه، أحفظ هذه الشهور عن ظهر قلب رغم إنني لم أمارس الزراعة على أصولها، فقد كنت الابن البكر المدلل، يووووووووه في (طوبة) كان جسد الواحد منا من شدة البرد يتحول إلى ما يشبه جلد عنزة عجفاء نافقة في وادي الصمت، وفي شهر (أمشير) وما أدراك ما (أمشير) كانت الأجواء تتحول إلى عواصف ترابية، أجواء رماية تجلب الإحباط إلى النفس، أقسم بالله العظيم أن العبد لله كان في مثل هكذا أجواء يتحول إلى شخص متبلد الإحساس يفقد الشهية إلى الطعام ويستمع إلى سمفونيات الريح في الليالي الماحقة وهي تهرب من شقوق البيوت الطينية، يا الله لا أتصور أن أحدكم جرب هذا الإحساس المفرط في الضبابية، ريح وغبرة وأشجار تبكي تحت ضربات العواصف. أما النيل في هذا الموسم فيكون في أوج زمن (التحاريق)، مياهه زرقاء لازوردية منحسرة إلى حدود القاع، وأمواج تحمل الكثير من الرغوة وتدخل الرهبة في النفس، لم أعش يا جماعة الخير مثل هذا الإحساس العارم والمخيف منذ سنوات طويلة، أما عشيات هذا المدعو (أمشير) فكانت أفضل حالاً من نهاراته، تسكن الريح في أجوائها وتتحول الأمسيات إلى فضاءات كالحة مثل طشت الألمونيوم القديم، وفي هذا الموسم بالذات كانت الحشرة اللعينة (النمتي)، تنهمر وتمارس لعبة مص الدماء، وكان هناك أشخاص بعينهم يعانون من قرص (النمتي) أكثر من غيرهم، وصدقوني رغم أن هذه الحشرة ما عادت من مظاهر الحياة في الشمال، لكن لا يعرف أحد من أين كانت تأتي ولماذا تنطلق في موسم الشتاء بالذات، حشرة (النمتي) خرجت من فضاءات الشمال دون عودة، لكن للأسف هناك الملايين من حشرات (النمتي) تلهف قوت الشعب وتسومه مر العذاب، آآآآه يا (نمتي).