استقبل بريدي الالكتروني أمس رسالة من المهندس الجيولوجي د. تاج الدين سيد أحمد طه، أحد المسؤولين في إحدى شركات التعدين الجيولوجي في ولاية نهر النيل، تعقيباً على إضاءتنا هنا منذ أسبوعين تحت عنوان «الجيلاني.. بشريات من ذهب». شكا الدكتور تاج الدين بمرارة من ممارسات «التعدين العشوائي» التي اعتبرها مهددة للأمن القومي ومدمرة للبيئة ومفسدة للشباب ومبددة لفرص الاستثمار في الثروات القومية التي يُرجى من وزارة التعدين الوليدة القيام على تدبيرها وترشيدها بحيث تشكل رافداً مهماً للخزينة العامة. وفيما يلي ننشر رسالته- والتي كما قال تعبر عن رأيه الشخصي وليس الشركة التي ينتمي إليها -. والرسالة موجهة للسيد وزير المعادن د. عبد الباقي الجيلاني.. مع التحية: أما التعدين العشوائي الحالي فقد ظهر في نهاية التسعينات في منطقة «سنقير» شمال الباوقة في ولاية نهر النيل بشكل محدود، نقله مواطنون من جنوب النيل الأزرق وتعرف عليه أحد مواطني العبيدية ونقله إلى منطقة «أم ترامبيشي» شرق العبيدية، فاشتهرت المنطقة وتوافد عليها الناس من كل أنحاء السودان وأقاموا مدينة عشوائية بعد أن صارت الأخبار والأساطير تنتشرعن ظهور الذهب في ولاية نهر النيل فقامت هيئة الأبحاث الجيلوجية سابقاً «وزارة المعادن حالياً» بتقسيم المنطقة إلى مربعات وتوزيعها للشركات الوطنية والعالمية. عندها انتقلت المدينة العشوائية إلى شاطئ نهر النيل شمال قرية العبيدية وكانت تُنقل إليها الحجارة من جبال البحر الأحمر بالعربات والبكاسي. وفي عام 2008 تم منع النشاط في المنطقة لظهور ممارسات غير أخلاقية في المنطقة وشكاوي المواطنين منها، عندها انتقل النشاط إلى داخل الصحراء في ولاية البحر الأحمر وظهرت مدن عشوائية في «بهورا» وغيرها، حيث تنقل إليها المياه بالتناكر من النيل والحجارة من الجبال المجاورة. وفي عام 2009 وبعد وفاة عدة أشخاص في انهيارات الآبار أصدر والي البحر الأحمر قراراً بوقف التعدين العشوائي وإخلاء المدن العشوائية في أربعة وعشرين ساعة، وكان يمكن أن تكون هذه نهاية التعدين العشوائي في المنطقة وفي السودان لولا تدخل المسؤولين المحليين في معتمدية بربر الذين طلبوا من المغادرين إلى قراهم ممارسة النشاط في المنطقة وأعدوا لهم منطقة شرق العبيدية، عندها تدخلت هيئة الأبحاث الجيلوجية وأجهزة الأمن القومي وطلبوا من المسؤولين المحليين منع النشاط في المنطقة وقفل المدينة العشوائية. طلب المسؤولون المحليون مهلة شهر لكي يتمكن العاملون بتعويض الرسوم التى جمعت منهم، وخلال هذه المهلة تسرب العاملون إلى الحدائق والمنازل داخل القرية وإلى شاطئ النيل وعندما احتج المواطنون الذين فقدوا الأمن في منازلهم قررت السلطات المحلية نقل النشاط إلى شرق المدينة على بعد خمسة كيلومترات دون أي مبالاة للقرار الذى أصدرته هيئة الأبحاث الجيلوجية والأمن القومي الاقتصادي.خلال هذه الفترة أيضاً ظهر النشاط في مدينة أبوحمد، وانتشر كالنار في الهشيم إلى ولايات كردفان وكسلا والبحر الأحمر، وظهرت المدن العشوائية. ونتيجةً لانتشارالأخبار عن الغنى السريع للذين يعملون في هذا المجال في شكل أساطير هجر الشباب أعمالهم واتجهوا إلى الصحاري بحثاً عن الثراء السريع. وتغيرت الأحوال من حال إلى حال حتى أن اختصاصياً كبيراً تخرج من كلية الطب فى عام 1972 طلب مني مساعدته في شراء هذا الجهاز السحري!.. وباع الكثيرون ممتلكاتهم ومنازلهم واتجهوا إلى الصحاري يقلِّبون كل حجر بحثاً عن الذهب، ولم تسلم مقابر الفراعنة والآثار، فلا خطوط حمراء لهؤلاء المغامرين الذين وجدوا التشجيع من المسؤولين وسماسرة الذهب، وتم تقنين استيراد هذا الجهاز تحت غطاء رخصة البحث التى تصدرها وزارة المعادن لتفقد البلاد كنوزها من الآثار، ووصل بهم الأمر إلى استعمال المعدات الثقيلة فى جرف الصخور والكشف عن المدفون. مثل هذا النشاط عرفته البشرية في العصور القديمة وهو ما يسمى حم الذهب أو اندفاع الذهب وهو إصابة الناس بجنون الذهب، وكما قرأنا فى كتاب الأطفال في عصر التعليم الزاهي «الذهب الذهب يكاد عقلي يذهب». ولقد أصابت حمى الذهب الأوربيين في القرن السابع عشر فاندفعوا عبر المراكب إلى أمريكا بحثاً عن الذهب، وأيضاً أصابت الحمى محمد على باشا في القرن الثامن عشر فأرسل ابنه البالغ من العمر عشرين عاماً على رأس جيش كبير إلى جبال بني شنقول، وعندما لم يجد الذهب توسل إلى والده أن يرجع، ولكنه رفض حتى أصابته الملاريا فإذن له بالرجوع، ولكي لا يرجع بخفي حنين إلى والده ارتكب حماقته المعروفة فى بلاد الجعليين ولقى حتفه.لم ييأس المسؤولون المحليون في ولاية نهر النيل وصاروا يرسلون الوفود إلى العاصمة لإقناع الحكومة المركزية بتقنين هذا النشاط، وانضم إليهم سماسرة سوق الذهب والمتاجرون في الذهب المسروق والمتورطون في غسيل الأموال، وظهرت هيئات وهمية مثل اتحاد منتجي الذهب، ولتغطية أهدافهم الحقيقية رفعت شعارات تظهر هذا النشاط بأنه الحل الوحيد لتنمية الريف وإيجاد الوظائف لآلاف الشباب العاطلين عن العمل تاج الدين سيد أحمد طه دكتوراة في الجيلوجيا 36 عاماً في مجال التعدين في السودان والسعودية