استقبل بريدي الالكتروني أمس رسالة من المهندس الجيولوجي د. تاج الدين سيد أحمد طه، أحد المسؤولين في إحدى شركات التعدين الجيولوجي في ولاية نهر النيل، تعقيباً على إضاءتنا هنا منذ أسبوعين تحت عنوان «الجيلاني.. بشريات من ذهب». شكا الدكتور تاج الدين بمرارة من ممارسات «التعدين العشوائي» التي اعتبرها مهددة للأمن القومي ومدمرة للبيئة ومفسدة للشباب ومبددة لفرص الاستثمار في الثروات القومية التي يُرجى من وزارة التعدين الوليدة القيام على تدبيرها وترشيدها بحيث تشكل رافداً مهماً للخزينة العامة. وفيما يلي ننشر رسالته- والتي كما قال تعبر عن رأيه الشخصي وليس الشركة التي ينتمي إليها -. والرسالة موجهة للسيد وزير المعادن د. عبد الباقي الجيلاني.. مع التحية: منذ فترة كنت أود الكتابة عن التعدين العشوائي فى السودان، بعد أن صدرت تصريحات من وزارة المعادن عن اتجاهها لتقنين التعدين العشوائي تحت مُسمى التعدين الأهلي والتصديق بمربعات للأفراد والولايات لممارسة التعدين. وكنت أود المشاركة فى الورشة التي أقامتها الوزارة لمناقشة التعدين العشوائي بقاعة الصداقة فى أغسطس 2010، ولكن عندما شعرتُ بأنها مجرد غطاء لتقنين التعدين العشوائى لم أشارك، واكتفيتُ بقراءة الأوراق المقدمة وبما نقله لي الأصدقاء. ولكن عندما قرأت مقالة «الجيلانى : بشريات من ذهب» فى زاوية الأستاذ طه النعمان فى صحيفة «آخر لحظة» قررت أن أشرح حقيقة مايجري، ومَن المستفيد الحقيقي من هذا النشاط الذى - تواضعاً- سُميَّ بالتعدين العشوائي، وهو أقل ما يمكن أن يوصف به، ولا أعرف كيف هانت على المسؤولين في السودان حياة الشباب من أبناء هذا الوطن الذين يعرضون أنفسهم للموت، وبدل أن يجدوا لهم سبل عيش كريم يفرضون عليهم الجبايات والرسوم، حتى وصل بهم الأمر لفرض رسوم على المواطنين من خارج المنطقة لمزاولة هذا النشاط، مع أن القانون يعطي الحق للسوداني العيش والعمل في أي جزء من الوطن. كل هذه الرسوم والجبايات تجمع بإيصالات مزورة، وفي لقاء تلفزيوني، لم يُعرض لشيء في نفس من أعدوه، تبرأ المسؤول الأول في معتمدية أبوحمد من هذه الرسوم والجبايات، وأنه كرجل قانوني لا يمكن أن يقر مثل هذه الرسوم وأن زعماء العشائر هم الذين يفرضون هذه الرسوم والجبايات. بدأ التفكير في تقنين التعدين العشوائي بعد صدور مرسوم والي ولاية نهر النيل السابق بتاريخ20 أكتوبر 2009 والذى وجد معارضة شديدة من الحكومة المركزية، وتم استدعاء الوالي إلى العاصمة وإلغاء المنشور، وذلك لتغوله على صلاحيات وزارة الطاقة والتعدين. ولكن لوبي التعدين العشوائي لم يستسلم، لأن هذا النشاط فتح لهم باباً للثراء السريع دون بذل أي جهد وظهر اتحاد منتجي الذهب في سوق الذهب، ورُفعت شعارات مثل فتح أبواب الرزق للبسطاء وإيجاد مورد مالي غير تقليدي يرفد خزائن الولايات والمحليات، وأن هذا النشاط موجود في كل دول العالم. واستمر النشاط تحت حماية المسؤولين المحليين دون أي مبالاة لقوانين الدولة وقوانين سلامة البيئة التي صارت ملزمة لكل الدول دون استثناء.. وخلال هذه الفترة ظهر الجهاز السحري الذى لعب بعقول المتعلمين من المهندسين والأطباء قبل الجاهلين، وانتشرت قصص من أثروا بهذا الجهاز بين السودانيين فى الداخل والخارج، فصار كل من له صديق أو قريب في أوربا أو أمريكا يطلب هذا الجهاز حتى وصل سعره إلى ثمانين ألف جنيه وسعره الأصلى لا يزيد عن ألفي دولار، وهو جهاز معروف في العالم قبل أكثر من ثلاثين عاماً ويستعمله هواة الرحلات في البحث عن الذهب في الغابات والوديان. ولكن لأن المواطن في تلك البلاد يحترم القانون فلا مجال للتهريب، ولقد نشرت الصحف السودانية خبر ذلك العاطل البريطاني الذى اكتشف كنزاً مدفونا في إحدى المزارع قيمته ستة مليون استرلينى وسلَّمه للجهات المسؤولة وأخذ قيمته عداً ونقداً، فالكل يحترم القانون. لكن الغريب والمحير هو أن تصدر شعارات وتصريحات تشجع التعدين العشوائي من أول وزارة معادن في السودان والتي أوكلت إليها مهمة تطوير الثروات المعدنية لتلعب دوراً أساسياً في نهضة الاقتصاد القومي بعد أقل من شهر من تكوينها، والتغاضي عن المعلومات التى وضعتها أجهزة الأمن الولائية والمركزية أمامها والتي كانت كافية لإلغاء هذا النشاط المشين والمدمر لثروات البلاد المعدنية والبيئية وكنوز الآثار، من أفراد لا يبالون بأي شيء في سبيل الثراء السريع. قبل التطرق إلى الآثار المدمرة لهذا النشاط أود أن أشرح لماذا هو تعدين عشوائي وليس تعديناً أهلى..التعدين الأهلى هو الذى يمارسه الإنسان منذ العصر الحجري، وأول تعدين للإنسان كان الذهب والنحاس كأدوات زينة والسودان ملئ بآثار التعدين الأهلي في شكل منازل حجرية وخنادق ورحى حجرية لطحن الحجارة، ووصل قمته في العصر الفرعوني في المنطقة الواقعة بين نهر النيل والبحر الأحمر. ومازال هذا النوع من التعدين الأهلي يمارس في الدول الآسيوية والأفريقية واللاتينية المتخلفة اقتصادياً في مناطقهم، وتحاول المنظمات العالمية مساعدة هذه الدول في إيجاد البدائل له أو ممارسته دون أخطار بيئية وبطرق آمنة. وفي السودان ظل المواطنون في جنوب النيل الأزرق والبحر الأحمر وجبال النوبة والجنوب يمارسون هذا النشاط منذ القدم إلى يومنا هذا في نطاق ضيق وفي مناطقهم التي يعيشون فيها لزيادة دخلهم، لأنه نشاط توارثوه من أجدادهم. تاج الدين سيد أحمد طه دكتوراة فى الجيلوجيا 36 عاماً فى مجال التعدين في السودان والسعودية