استقبل بريدي الالكتروني رسالة من المهندس الجيولوجي د. تاج الدين سيد أحمد طه، أحد المسؤولين في إحدى شركات التعدين الجيولوجي في ولاية نهر النيل، تعقيباً على إضاءتنا هنا منذ أسبوعين تحت عنوان «الجيلاني.. بشريات من ذهب». شكا الدكتور تاج الدين بمرارة من ممارسات «التعدين العشوائي» التي اعتبرها مهددة للأمن القومي ومدمرة للبيئة ومفسدة للشباب ومبددة لفرص الاستثمار في الثروات القومية التي يُرجى من وزارة التعدين الوليدة القيام على تدبيرها وترشيدها بحيث تشكل رافداً مهماً للخزينة العامة. وفيما يلي ننشر رسالته- والتي كما قال تعبر عن رأيه الشخصي وليس الشركة التي ينتمي إليها -. والرسالة موجهة للسيد وزير المعادن د. عبد الباقي الجيلاني.. مع التحية: أقام جهاز الأمن الاقتصادي ورشة عمل لمناقشة هذا النشاط في أكتوبر 2009 وتمَّ تقديم أوراق وتوصيات، وبدل الرجوع إليها والاستفادة منها، أصرت وزارة المعادن الحديثة التكوين على إقامة ورشة عمل أخرى، ومع أن كل الأوراق التي قدمت تضمنت الآثار البيئية والأمنية والاقتصادية والأخطار الجسيمة التي يتعرض لها العاملون جراء الانهيارات وفقدان الأوكسجين حتى وصلت إلى أكثر من مائة حالة، وأشارت إلى وجود أكثر من مائة وأربعين أجنبياً وسط العاملين يهددون الأمن القومي، وإلى استغلال الحركات المسلحة لهذه التجمعات، ومع ذلك تصر وزارة المعادن إلى إيجاد فوائد اقتصادية تصل إلى أكثر من أربعمائة مليون دولار وأن الإنتاج يصل إلى خمسة وعشرين طناً في السنة.. هذه الأرقام لاتطابق الحقائق العلمية البسيطة التى يدرسها طلاب كليات التعدين والجيلوجيا، ولا الحقائق على الأرض. شركة أرياب التي تملكها الحكومة السودانية وشركة فرنسية بكل إمكاناتها المادية والبشرية التي تضاهي شركات التعدين العالمية تنتج ثلاثة أطنان فقط في العام وتحتاج إلى استثمارالملايين من الدلارات لرفع إنتاجها إلى خمسة أطنان خلال أعوام.أما الشركات الوطنية والأجنبية التي دخلت الإنتاج بعد استثمار ملايين الد ولارات وتستعمل أرخص الطرق العلمية لاستخراج واستخلاص الذهب لم يصل إنتاجها إلى طن واحد في العام، ولرفع الإنتاج إلى طنين فقط يجب استثمار الملايين. لا أعرف كيف يمكن لهؤلاء البسطاء بالفؤوس، والذين لا يعرفون أن حرق الإطارات داخل الحفر يؤدي إلى حرق الأوكسجين وتكوين ثاني أكسيد الكربون والذي سوف يؤدي إلى اختناقهم وموتهم الجماعي، أن ينتجوا خمسة وعشرين طناً من الذهب في العام ويشاركوا بأكثر من أربعمائة مليون دولار في الاقتصاد القومي. فإذا صدقت الوزارة الحديثة التكوين والتى لا تملك أي إحصائيات حتى للذهب الذى تنتجه الشركات، والتي لا يوجد لها أي وجود في جميع مناطق التعدين العشوائي، والتي لا يوجد في مكاتبها الإقليمية إلا جيلوجى واحد دون أي إمكانيات، فلماذا تصرف الدولة الملايين لإقامة الجامعات وكليات التعدين.من المعروف أن هؤلاء البسطاء يبحثون عن عروق الذهب التي تصل نسبة الذهب فيها إلى خمسة جرام في الطن أو أكثر، ويستعملون الطريقة البدائية التي استعملها الإنسان الأول في استخلاص الذهب.. فإذا اعتبرنا متوسط تمعدن الذهب يصل إلى عشرة جرام في الطن، ونسبة الاستخلاص تصل خمسين في المائة، فيحتاج هؤلاء البسطاء بفؤوسهم إلى إزالة ملايين الأطنان من الخام والنفايات لإنتاج خمسة وعشرين طناً من الذهب .التعدين يلعب دوراً محورياً في اقتصاد جميع دول العالم المتقدم، وكان من الممكن أن يلعب هذا الدور في السودان لو تم استغلال الفرص التي ُأُتيحت للسودان من خلال المشروع الروسي في البحر الأحمر «1970 - 1974» والمشروع الصيني«1974 - 1977» والمشروع الفرنسي «1980- 1984»، ويمكن أن يلعب الآن هذا الدور في الاقتصاد القومي، وذلك لو اتبعنا الطرق العلمية واستعملنا التكنولوجيا الحديثة التي أوصلت دولة أفريقية مثل جنوب أفريقيا إلى أن تستخرج الذهب من عمق أربعة كيلومترات، ودولة مثل الدنمارك تدير مناجمها بالرموت كنترول، ودولة مثل سويسرا تحرِّم صناعة الزئبق لأن حياة الإنسان وسلامة البيئة أغلى من أي معدن.تعتبر قوانين البيئة والسلامة اليوم مُلزمة لجميع الدول، وشعار السلامة يوجد في كل ركن في مناجم العالم، ولا تمنح أي رخصة تعدين لأي شركة مهما كان العائد ما لم تقدم دراسات بيئية تحت إشراف خبراء توضح الإجراءات التي تحمي البيئة خلال استخراج الخام وبعد الانتهاء.لا شك أن المسؤولين في وزارة المعادن الجديدة لهم طموحات وأحلام لدفع التعدين ليلعب دوره في الاقتصاد القومي والذى تأخر كثيراً دون أي مبرر، ولكن لتحقيق هذه الطموحات والأحلام لا بد من الاعتماد على العلم والتكنولوجيا والاستفادة من خبرات الدول التي سبقتنا. لقد تمكنت دولة مثل السعودية من تطوير التعدين ليصل إلى المرتبة الثانية بعد البترول فى أقل من عشرة أعوام، واليوم توجد أربعة مناجم للذهب ومدينة صناعية للفوسفات ومدينة صناعية للبوكسايت، وهنالك دراسات لإقامة مدينة صناعية للذهب شرق الطائف، وكل هذه المناجم يديرها شباب سعودي بعد أن كان هناك منجم واحد يديره الأجانب حتى عام 1995. أما هذا النشاط السرطاني المشين فلا علاج له إلا ما قام به الدكتور محمد طاهر إيلا بمسؤولية دون الالتفات إلى احتجاجات زعماء العشائر، وهو إعطاء مهلة أربعة وعشرين ساعة لإخلاء هذه المدن العشوائية والتي تمارس فيها كل الأنشطة الممنوعة، والتي تدر على المسؤولين المحليين الملايين للصرف على مظاهر السلطة من سيارات فاخرة وغيرها دون الالتفات إلى واجباتهم من تقديم الخدمات للمواطنين. أما الإصرار على تقنين هذا النشاط المشين وإعطائه أدواراً خارج نطاق العقل والمنطق في دفع الاقتصاد القومي للرضوخ إلى ضغوشط اللوبي المكون من المسؤولين المحليين وسماسرة سوق الذهب والمتورطين في غسيل الأموال والمتاجرين في المسروقات، فسوف يجعل هذه الأحلام مجرد شعارات تلهي الشعب عن الكارثة القومية الوشيكة الوقوع لا قدر الله، ولا خير فينا إذا كان البترول هو مبتغانا من الوحدة، وكما قال الأستاذ طه النعمان «كنوز الدنيا لن تعوضنا خسارة متر واحد من الوطن»، ولم يكن رواد الحركة الوطنية فى 1947 قد سمعوا بالبترول، ولم نكن نعرف البترول عندما كنا ننشد قصيدة شاعرنا الأستاذ عبد اللطيف عبد الرحمن «منقو قل لا عاش من يفصلنا» عشية الاستقلال. اللهم هل بلغت فاشهد تاج الدين سيد أحمد طه دكتوراة في الجيلوجيا 36 عاماً في مجال التعدين في السودان والسعودية