رأي: د. عبد الرحيم عبد الحليم محمد : رحم الله الأستاذ محمد عطا المنان جلاب مؤسس مملكة الأسواق الحرة في بلادنا عام 1973م، والعابر بها من متجرين صغيرين في صالتيّ الوصول والمغادرة بمطار الخرطوم، برأسمال صغير إلى فضاء استثماري عالمي.. لم ينجح عطا المنان في تحدي جذب العملات الصعبة في زمن صعب، وإنما تجاوز ذلك التحدي بتنويع متاجر البيع داخل حدود الوطن، لقد تمكن محمد عطا المنان والفريق الرائع الصغير الذي العمل معه عبر هيكل تنظيمي مبسط ومرن ودعم كبير من الدولة، من إنشاء أسواق حرة راقية نالت ثقة العلامات التجارية الأشهر في العالم، كان اسم مستر منان، مناناً ورناناً وواثقاً وموثوقاً به كرمز تجاري سالت به حناجر الموردين للسلع والخدمات لمؤسسة آلت على نفسها السداد في الوقت المحدد ،رغم شح وغلواء تداول النقد الأجنبي يومها. كانوا يتحدثون بإعجاب ظاهر عن مستر منان كلما جمعتنا بهم كموظفين صغاراً أو كباراً المحافل أو اللقاءات، أو جاءوا في مهام تجارية أو سياحية إلى بلادنا.. وهنا أذكر كيف أن مصممي شركة توتال فابركس الإنجليزية، كانوا يأتون إلى بلادنا ونولم لهم في غابة السنط ويأتون بتصميمات مستوحاة من عناقيد القرض وروحانية المكان عند التقاء النهرين. كانت تحديات السياحة والاستثمار في بلادنا حاضرة في ذهنية المؤسسين الأوائل للأسواق الحرة، يومها رأينا المنتجات اليدوية السودانية Sudanese handicrafts كالعاج والأبنوس وريش النعام وجلود الأصلة والتماسيح، تورد إلى المؤسسة وتشتري وتباع عبر إدارة خاصة، على تلك الأرفف الجميلة، كنا نرى مجلة سوداناو الصادرة بالانجليزية تمثل إعلاماً وطنياً يحدث الآخرين عن وطننا تاريخاً وحضارة وموارد. (سوداناو) كانت تمد يداً زاهية وعليمة للسواح والعابرين كأداة ترويج لوطن جميل، في الأسواق الحرة يومها، رأينا فهماً متقدماً وراقياً وحضارياً للدور الاقتصادي للموسيقى كملكية فكرية وكأداة لإثراء العالم بالفن الرفيع وتحويل الإبداع الفني إلى قدرة مالية. نقول بذلك مشيرين الى أن مساهمة الملكيات الفكرية المؤلفة كالموسيقى وبرامج الحاسوب، تسجل معدلاً عالمياً يتجاوز 142 بليون دولار مبيعات في الأسواق العالمية، هناك حين تحولت الأسواق الحرة إلى أشواق حارة تبيع تنهدات العاشقين وزفراتهم عبر الأغنية الملهمة إلى المسافرين والدبلوماسيين بالعملات الصعبة، لم تكن تلك العملات يومها شديدة الفتك بعملتنا الوطنية كما يحدث الآن. بدأت المؤسسة يومها توثيقاً عبر الكاسيت للكابلي، والبلابل، وأمير العود حسن عطية، سيد خليفة، وعثمان اليمني، ورمضان زايد، ولأن الموسيقى لغة عالمية، رأينا يومها منتجات العاج السوداني والكاسيت والشنط الجلدية الجميلة وبيض وريش النعام تباع في الأسواق الحرة في مطار شانون الدولي في ايرلندا، تلك علاقة تعاون استراتيجي تمت بين الأسواق الحرة والمؤسسة الايرلندية وسلطات الطيران المدني في ايرلندا لثقة العالم في مؤسستنا لتقديم برامج التطوير والتدريب للبائعات والإدارات الإشرافية والوسطى والتنفيذية. تمكنت المؤسسة من إرساء دعائم الوحدة فشمل التعيين قطاعات كبيرة من أبناء الجنوب، بل وإنشاء أسواق حرة متميزة في جوبا، ومن بوابة الوحدة، كانت المؤسسة تحتفل سنوياً بنجاحاتها وكثيراً ما كان الحفل بحضور رجالات الدولة ورؤساء الشركات العالمية، إن ما تم ويتم على صعيد المناطق الحرة لم يكن إلا تنفيذاً أو استرشاداً بما وضعه المؤسسون من خطط زاوجت بين سياحة الأسواق الحرة والأشواق الحارة على يد رجال طابعهم الشرف والأمانة، اليوم وفي الولاية التي أعيش فيها، رأيت جناحاً رواندياً ملوناً في أحد الأسواق الكبيرة بتقنيات عرض مساندة للمنتجات الشعبية والفولكلورية في ذلك البلد الذي مزقته الحروب والنزاعات، وأراد أن ينهض من كبوته عبر منتجاته القومية، في هذه الولاية أيضاً تقابلك الملوخية المصرية، والفول اللبناني، والسردين المغربي، والتمر الجزائري، تذكرت الأسواق الحرة على يد روادها الأوائل... عطا المنان، ومحمد الأمين، وأسماء التيجاني، ومحجوب الجاك، والرشيد عبدالباقي، والهادي نور الدائم. في فوضى ذكرياتي، تخيلت أنني أهمس في أذن مسؤولي الاستثمار والسياحة في بلادنا ناصحاً بالانكباب على دراسة التجارب الناجحة في بلادنا في الاقتصاد والتنمية وتعليمها لطلابنا في المدارس.